منذ شبابي، أكرمني الله بمحبة كوستي بندلي و نفعني بعلمه. قرأت كتبه، وفي مقدمها كتاب حياته وهو أجمل ما كتب وأغنى. وعرفت صفاءه الروحي ولطفه وتواضعه. لم تبعده سعة اطلاعه عن احد من خلاّنه او مريديه بل حمّلته اسئلتهم وهواجسهم. ولعله كان يبحث عنها لا في الحوار الدافئ فحسب بل في في عيون الشباب الحائرة وطرق البالغين المتعرّجة اوفي مساعي هولاء واولئك المتعثرة. رجل صلاة كان، اي رجل ايمان قويم. لم يحسب نفسه يوما حارسا للعقيدة وكأنها ملك يديه تسوّغ ادانة الغير، تقصي بدل ان تقرّب. بل دخل من الباب الضيق للسير نحو تجليّات الحق والخير والجمال حيث ما تكشّفت له، في الكنيسة وخارجها.
وذهب من المعرفة، وهي عنده غزيرة، الى الحكمة. توسّل العلوم الانسانية طريقا الى مقاربة سر الانسان ومعها تنزيه الله عن الكثير مما يوصف به او يقال عنه. حمل الانجيل بيد وتواريخ الناس وقصصهم بيد أخرى. قرأ معاني الثانية حينا، ومراميها حين آخر، في مرآة الأول. وما ارتضى السهولة في كل ذلك. فبعض الأنجيل يحتجب وراء نواقص التفسير وتجمدّه خارج سياقات حيواتنا. لكن انواره تفتح امام الأعين احتمالات وفرص تمتحن الشهادة المسيحية، يوما بعد يوم، وتشقّ مسالك جديدة.
رافقتني افكار كوستي بندلي. امسكت بي ولم افلت منها. حسبي ان أذكر منها مساهمتان له ما بهتت ولا طوتها الأيام. صاغ نقدا منسجما للصهيونية من منظور مسيحي وفنّد حجج دعاتها الكتابية، وهي في الكثير منها من صنع المسيحيين. لم يقع في المرقيونية، اي القطيعة الناجزة مع العهد القديم ولا في ذاك العداء لليهودية ، التي لا يرى فيها البعض سوى حزمة من المؤامرات والشرور. لكنه انتقد التلاعب بالنصوص الدينية واستثمار دلالاتها الرمزية وطاقاتها الروحية في مشروع سياسي يلوي ذراعها ويؤدي، في آخر المطاف، الى الانحراف عن مقاصدها. وعلى هذا النحو يخالف فئة من المسيحيين عندنا ممّن ردّدوا على نحو عقيم وصفا للصهيونية لاتاريخياً، يصوّرها مشروعا خارقا يحرك العالم ويستتبعه، ولم يفعلوا شيئا يذكر منذ نكبة فلسطين، واقتلاع شعبها ونفيه. وتشكّلت على يده انظومة لاهوتية وفكرية تقارع من دفعهم الشعور بالاثم حيال اليهود الى صداقة اسرائيل واختراع لاهوت يشرعنها.
ووفّر جهده الفكري ادوات معرفية وسجالية افاد منها عرب مسيحييون لتغيير مواقف فئات واسعة داخل المسيحيّة الغربية، لا سيّما في مجلس الكنائس العالمي الذي انتصر لشعب فلسطين وتحرّر من أسر العطف الديني على اسرائيل، والقى بذرة الحملة الدولية للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على الاحتلال والتي تلعب فيها الكنائس البروتستانتية الليبرالية في الولايات المتحدة دورا طليعيّا.
اما المساهمة الثانية فقوامها رأي كوستي بندلي المسيحي في الطائفية. اضاف الى ادبيات نقد الطائفية، في السياسة والمجتمع والثقافة، مناظرة اخلاقية ولاهوتية غير مسبوقة. صحيح ان كتّاب عصر النهضة ورواد العمل الوطني من المسيحيين واجهوا الفكرة الطائفية او ناضلوا من اجل تجاوزها. غير انهم لم يمّيزوا، كما فعل، بين الطائفة و الكنيسة، ولم يهتموا بتبيان التعارض الصريح بين منطق الأولى وقيم الثانية.
واليوم، ارانا نفتقد رأي كوستي بندلي الذي تناساه الكثيرون، من المسيحيين الأرثوذكس، باسم واقعية مزعومة تؤلّف بين الخوف والوهم وتأخذهم الى مشاريع مستحيلة. ونفتقده ايضا في محاذرة النظرة الجوهرية التي ترى الطوائف بصورة جماعات متجانسة ذات طبائع مميّزة. و نفتقده ثالثا، في حمأة البكائيات الأقلوية ونرجسيات الضعفاء، لأنه ظلّ امينا للأنجيل حين يدعو القطيع الصغيرالى التحرر من الخوف ويحثّ المسيحيين ان يعوا انفسهم بصورة الملح الذي يملّح العجين كله.
سلام على كوستي بندلي في غيابه عنا وقربه منّا.
طارق متري
3 نيسان 2015