" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
الرجوع الى القائمة
الدكتور كريستو المر - قراءة في كتاباته

قراءة لكتابات كوستي بندلي في الإيمان المسيحيّ


ولدت في عائلة مسيحيّة أورثوذكسيّة "تقليديّة"، أي أنّني لم أكن أعرف من الكنيسة سوى عيدَيْن: "الميلاد" و"العيد الكبير" الذي لم أكن أعرف أنّ إسمه الفصح في صغري. كنت أعرف أنّ الله موجود. لكنّ لقائي الأوّل بالله على حدّ ذاكرتي كان في تأمّلاتي في حوالي العاشرة من العمر في سرّ الكون، في سرّ الخلق. ما زلت أذكر ذهولي الكامل حينما حاولت أن أعود في خيالي إلى أسباب الوجود، فنحن أتينا من الأرض، والأرض من الشمس، والشمس من...إلخ، حتّى وصلتُ إلى الله بادئ الوجود، وتساءلت ماذا لو لم يكن الله موجوداً ماذا كان سيكون الوجود؟ بل كيف يمكن للوجود أن يكون؟ بل كيف يمكن للاّوجود أن يكون (إذ بدون الله حتّى اللّاوجود غير ممكن الوجود)؟ وهنا وصلت إلى حافة قدرات دماغي ودخلت في ذهول طعمه لا يزال في قلبي إلى اليوم.


لكنْ بقي لقائي الشخصيّ بالله سطحيّاً، بقي لقاءً نفعيّاً، أصلّي له مقابل طلبات لتحقيق الأماني، بقيتُ أتعامل معه تعاملاً مشبعاً بالفكر السحريّ، تعاملاً محرّكه الاستيلاء على الألوهة أو مراعاتها بالصلاة (والمراعاة محاولة استيلاء من الباب الخلفيّ)، لتسخيرها لأغراضي فكنتُ "أُصلّي" لله حتّى تتحقّق بعض أمانيّ. يسوع بدأت أتلمّسه كشخصيّة منذ ارتباطي الواعي بالكنيسة في كنف جوقة الأستاذ ديمتري كوتيا؛ وقد شدّني بشكل خاص أنّ يسوع إنسانٌ، ليس فقط إلهٌ بل إنسانٌ أيضاً، وأنّ مصيره كان مصير المصلوبين، القيامة لم تكن أخذت كلّ أبعادها في فكري أو حياتي عندها. كان عليّ أن أنتظر حتّى يدعوني صديق هو حميد الدبس للذهاب في رحلة مع الحركة في الميناء. ومن الرحلة دخلت إلى الفرقة، وفي الفرقة اكتشفت وجوه أحبّة أحاطوني بمحبّة وصدق وتميّزوا بروح نكتة نادرة، أحبّة جمعوا صدق السعي والعمق إلى اللقاء الصداقيّ الحقّ. هناك بدأتْ تتبدّى لي المسيحيّة وأعرف العقيدة والكنيسة. من هناك بدأتُ أُشارك في الحياة الكنسيّة بشكل أعمق وبدأت أتعاطى مع يسوع على صعيد وجدانيّ. ولكنّي في البداية لم أكن قد عرفته بعد -وما أزال في بداية- لم أكن قد تأمّلت بتفاصيل مسيرته بيننا، إلاّ أنّ التصاقه بالفقراء والمرميّين كان غريباً وجنونيّاً، هكذا بدأ وجهه يشدّني. في الفرقة كنّا نحضّر الاجتماعات كلّ بمفرده، قراءة كتاب أو أكثر ينصحنا به المرشد، وكان كلّ منّا يلتزم مداورة التحضير الرئيس للاجتماع. هكذا كان أوّل لقاء لي بكوستي بندلي.


"كوستي بندلي" الإسم لم يعنِ لي شيئاً أوّلاً، شدّني العنوان: "مع تساؤلات الشباب"، هناك كان لقائي الأوّل مع كوستي بندلي. هناك دخلتُ إلى نفسي المُراهِقَة، وارتحت لوضوح الكاتب وصفاء رؤيته لأزمات كنتُ أحياها ولم أكن أفهمها. ثمّ كان لي في الحركة التعاطي الأوّل مع أمر غريب أطلقه كوستي ألا وهو الصلاة العفويّة. أذكر الصعوبة البالغة التي وجدتها في الصلاة العفويّة قبل أن تصير عندي تعبير قلب.


لاحقاً، ذهولي الثاني مع الله كان حينما أخرجتني كلمةٌ لكوستي قالها مرّة في إحدى الحلقات الدراسيّة عن كون الله ليس قدرة أو قوّة مبهمة وإنّما هو شخص، وبالتالي نستطيع أن ندخل معه في علاقة. هذا كان اكتشاف بالنسبة لي، اكتشاف كيانيّ فيّ، أكّد اتّجاهي الوجدانيّ في العلاقة مع الله ولكن بوعي أكثر له كشخص، ولكون صلاتي له وحديثي إليه لهما معنى، معنى إقامة العلاقة مع شخص. هذا كان عندي انقلاباً في كلّ علاقتي بالله، لأنّ الله بقي عندي حتّى تلك الجملة، وإلى حدّ كبير، مجرّد خالق، مجرّد قوّة.


الكتاب الآخر لكوستي الذي ترك فيّ أثراً عميقاً هو "إله الإلحاد المُعاصر"، قرأته في عمر مبكّر، لم أكن مطّلعاً على الفلسفة، لا على ماركس ولا على سارتر، اللذَيْن كانت فلسفتهما موضوعَ الكتاب. في الكتاب تعرّفت على الله كمُحرّر، كمُطْلِق، كمُحِبّ للإنسان، وكمُحتَرِم له، تعرّفت عليه كمصلوب على حرّية الإنسان، وعرفت أن أقرأ ما بيّنه كوستي بندلي من مسؤوليّةٍ للكنيسة وللمؤمنين عن ابتعاد الناس عن الله، فاتّضح لي أنّ المُلْحد هو في أحيان كثيرة لا ينكر إله يسوع المسيح بل ينكر الصورة المُشَوَّهَة عن الله التي ينقلها مَنْ تَسَمّوا باسم المسيح. وعرفت بالتالي أنّ الإلحاد يمكنه أن يكون تنقية للإيمان، وفهمت أنّ الله هو المعنى وأنّ الحرّية الإنسانيّة بدون الله تصطدم باللاجدوى وبضياع الإنسان. لاحقاً قرأت كتاب "السبل إلى الله" فكان أنْ رسّخ فيّ ذلك الفكر المُضيء لكوستي، والحجّة المنطقيّة الحواريّة، والقدرة على مناقشة أمور الإيمان مع غير المؤمنين ومع نفسي التومائيّة (نسبة لتوما) ومع المتمسّكين بالعلم كمصدر أوحد للحقيقة البشريّة. ما يميّز كوستي في الكتابين هو أنّه منطقيّ، وأنّه غير متزمّت، يستعمل عقله ليخاطب عقل القارئ. ففي موضوع غير قابل للبرهان كما هو "موضوع" وجود الله والإيمان، يدلّ كوستي القارئَ على إمكانيّات مفتوحة وممكنة، يبيّن له أنّه لا يمكن الجزم بعدم وجود الله. كوستي في كتابيه مُحاور ومُفَنِّد لحجج الآخر ومحاجج، ومنفتح على الحقيقة التي عند الآخر، مُبَيِّنها ومُبَيِّن حدودها، وفاتح أمام الآخر صاحب الرأي المختلف آفاق لم يرها أو لم يرد دخولها.


كتابه الثالث الذي أحببته هو "الله والشرّ والمصير" الذي أخذني من التكوين، إلى الحرّية، إلى الخطيئة، إلى الصليب، إلى القيامة، إلى الفداء، إلى الموت، إلى الخلاص، إلى الملكوت، إلى القيامة العامة وقيامة الأجساد، شارحاً لي، بإسهاب وببساطة، المعنى الإيمانيّ الحياتيّ لهذا الكلمات التي كثيراً ما تحوّلت إلى مصطلحات عقيديّة جامدة من كثرة تردادها، فربطها كوستي بالحياة العمليّة، وذلك في بيئة عُمْقٍ كنسيّ وإخلاص للإيمان بادِيَيْن في جِدّة نظرته إلى المواضيع الدينيّة وفي التعب الذي بذله في حواره للقارئ وفي المراجع التي تركها بين يديه للإستزادة.


ثمّ أتى كتاب "كيف نفهم اليوم قصّة آدم وحوّاء" ليشفي عندي عطشاً وقلقاً فكريّين وإيمانيّين لا يزالان مستمرّين فيّ حتّى اليوم، وهما مُرتبطين بالسؤال التالي: كيف يمكن أن أوفّق بين إيماني بما ينقله التقليد الأرثوذكسيّ، ومنه الكتاب المقدّس وما يحمله من حقائق إيمانيّة وخبرة روحيّة وبشارة مفرحة، وبين الحقائق العلميّة وما تشير إليه من تطوّر بطيء للحياة ظهر فيها الإنسان كتتويج لمسيرة طويلة. فكان رأي كوستي اللاهوتي فَتْحاً بالنسبة لي. ومن المؤسف أنّه بدلاً من مناقشة طروحات الكاتب ورأيه بذهن منفتح وبروح التفتيش عن الحقيقة -أي بروح آبائيّة- جوبهت هذه الطروحات برفض متشدّد وبأكثر من ذلك. وبغضّ النظر عن قيمة ومحتوى الكتاب وتوافقه مع الروح الآبائيّة والإيمان المسيحيّ (وبرأيي، كمؤمن، هو متوافق معها) فإنّ رفض الحوار، وبعض أساليب الردّ التي بلغت حدّ التجريح الشخصيّ، لا تنمّ سوى على الجمود والخوف، وتكشف مدى تراجعنا في التزام العمل الخلاّق وتقييدنا لحرّية التفتيش عن سبل تأوين الحقّ، تكشف نكوصنا إلى تأبيد الماضي بدل استلهامه. الجمود والخوف لا يساهمان في نشر ضوء المسيح، وخطرهما أكبر في نظري، من "خطرِ" أيّ رأي قد يكون مُخطئاً ولكنّه قد يكون مُصيباً.


بعدها كان لي قراءة للملحق المميّز حول العجائب الذي كتبه كوستي في "فتات من نور" الذي يطرح قراءة تعكس ذلك الخطّ الذي قابلته طوال قراءاتي لكتاباته وعشرتي الشخصيّة له، ألا وهو خطّ المصالحة بين الإيمان من جهة وما بدا لنا من ضوء إلهيّ عبر العلوم المعاصرة من جهة أُخرى. كتاباته هي مؤالفة للأضواء، ضوء الإيمان وضوء العلم. لهذا السبب ربّما تبدو لي كتاباته كتابات ضوء وفرح، كتابات حرّية، كتابات رحبة تُطلِقُ قارئها وتشدّه لا إلى كاتبها بل إلى إلهه، إلى المسيح، إلى الإله الذي أوضحه المسيح على الصليب، مَثَلُ كوستي بذلك مثل يوحنّا المعمدان، يتوارى (في كتبه) ليكبر ذاك الذي أحبّ حتّى الموت موت الصليب.


الأضواء الأُخرى التي أودّ ذكرها، والتي كانت لي فرحاً، هي تلك التي قرأتها في "نضال عنفيّ أو لا عنفيّ لإحقاق العدالة"، ثمّ في "الإيمان والتحرير" و"المحبّة والعدالة والعنف" و"النضال اللاعنفيّ ملامح وصور" وكذلك في "إسرائيل بين الدعوة والرفض". في الكتب الأربعة الأولى سرّتني الرؤية التي أطلقها كوستي وسلّط فيها الضوء على ذلك التساؤل الذي كان مجال صراع هائل في شبابي بين مستلزمات الإيمان والمحبّة من جهة، وبين مستلزمات الدفاع عن النفس وعن الناس من جهة أُخرى؛ هذا التساؤل-الصراع الذي رافق فرقتنا الحلوة في نقاشاتنا في الميناء، ورافقنا أثناء مخيّماتنا في كوسبا، هذا التساؤل الذي كلّف الأب الذي رافقنا في نقاشاتنا في كوسبا دموعاً (بالمعنى الحرفيّ والمجازيّ) وصلاة. سرّتني رؤية مسيحيّة صافية تهدي المناضلين العنفيّين بتظهير مخاطر نضالهم العنفيّ وتقترح استكشاف طريق أُخرى فعّالة في النضال هي الطريق اللاعنفيّة، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى، تُحّفِّز هذه الرؤيةُ المسيحيّينَ المستكينين وتدفعهم لالتزامٍ لا مجال للتهاون فيه لكي يتجسّد إيمانهم في الحياة اليوميّة، إيمانهم بالقيامة وإيمانهم بالمسيح قائماً ومدشّناً لملكوت المحبّة الذي من المفترض أن يُعاش الآن وهنا، تحفّزهم للالتزام بالواقع الأرضيّ الذي علينا أن نحوّله ملكوتاً فتصير الإفخارستيّا (سرّ الشكر/المناولة) متجسّدة في لحم هذا العالم. هكذا شدّد كوستي بندلي، في كتبه تلك، على ضرورة النضال من أجل الإنسان، وتجسيد هذا النضال بطريقة لاعنفيّة كسبيل أمثل لتجسيد الإيمان المسيحيّ في نضالٍ سياسيّ، وللمؤالفة بين متطلّبات محبّة القريب ومحبّة العدوّ. وقد بيّن أنّ القوّة ضروريّة في النضال، وأنّ بإمكان هذه القوّة أن تحتوي عناصر الضغط والتأثير دون أن تكون عنفيّة بالضرورة (كما في المقاطعة الاقتصاديّة مثلاً). إلاّ أنّه حاور أيضاً المناضلين العنفيّين محذّراً إياهم من سمّ الحقد، مرتكزاً على التحليل النفسيّ، ومقترحاً عدّة خطوات من شأنها الحدّ من انحراف النضال العنفيّ عن مقاصده (الدفاع عن الإنسان) إلى مواقف مُعادية للإنسان والحياة كما حدث في معظم الثورات. وشدّد على ضرورة تحليل الأوضاع والتأكّد من استحالة النضال بالأساليب اللاعنفيّة قبل اختيار النضال العنفيّ سبيلَ تحرير معتبراً إياه أهون الشرّين، شرّ قمع وظلم الناس وشرّ العنف. وقد انبرى بعض المدافعين عن النضال العنفيّ في لبنان يناقشونه في طروحاته -الجديدة على الناطقين بالعربيّة- إنطلاقاً من قناعاتهم، فكان أن حملت كتبه الحيويّة التي انطلقت في تلك النقاشات التي شهدتُها مع بعض الحركيّين بفرح.


وفي كتاب "الإيمان والتحرير" بشكل خاص، تقرأ كوستي بندلي ولكأنّه كان يكتب ويحاور وفي ذهنه المسيحيّين المتمترسين داخل القوالب الجامدة، على ما عبّر مرّة أحد أصدقائه، نيقولا لوقا، عند عرض كتابه في بيت الحركة في الميناء. فكان أسلوبه يعكس هذا الصراع الداخليّ الذي تعيشه الكنيسة، وكلّ مؤمن، للمؤآلفة بين الدعوة لتعميد العالم ونشر الملكوت وما يحتفّ بهذه الدعوة من خطر الغرق في العالم وضياع الإنسان وراء الشعارات، وبين الدعوة إلى التأمّل والصلاة والالتصاق بالله مع ما يحتفّ بهذا الدعوة من خطر الانزلاق إلى تديّن هروبيّ وهميّ.


أمّا كتاب "إسرائيل بين الدعوة والرفض" فما يُفرح فيه هو أنّه بدّد الأوهام التي ترتكز عليها الدعاية العنصريّة الصهيونيّة التي أسّست ما يُسَمّى بدولة "إسرائيل" ومنها وهم الاختيار التفوقيّ، بدّدها من وجهة نظر مسيحيّة وارتكازاً إلى العهد القديم الذي هو جزء لا يتجزّأ من الإيمان المسيحيّ. فالكتاب هو قراءة لتاريخ الشعب اليهودي وحكاية إيمانه وكفره بالله وتأرجحه بينهما، قراءة تُبَيِّن من خلال العهد القديم توتر المؤمنين اليهود تاريخيًا (وهذه تجربة كلّ الأديان) بين استغلال الله وخدمته، وتُظْهِر شهادة الأنبياء لله وإدانتهم لتجربة الانزلاق إلى القوّة والبطش. فإذ ما أتى المسيح، حقّق وعدَ الله بالسُكْنى بين الناس، والتجاوب الكامل للإنسان مع الله، ولَمْ تَعُد كلمة "إسرائيل" تُطْلَقُ في المسيحيّة إلاّ على إسرائيل الجديدة، أي الكنيسة (المنظورة وغير المنظورة)، ولم يَعُدْ مِنْ "أرضٍ موعودة" سوى الملكوت المُرْتَجى. وحبّذا لو قرأ كتاب كوستي هذا كلُّ مَنْ يرفض العهد القديم بسبب رفضه لدولة "إسرائيل"، فلكان رأى قراءة مسيحيّة للعهد القديم تنسف أوهام الدعاية الصهيونيّة.


أخيراً يطيب لي أنْ أذكر لقائي بالله في كتاب كوستي بندلي "الجنس ومعناه الإنسانيّ" والذي يُفرحني أنْ أراه معروضاً للبيع في بعض الأديرة ويُحزنني ألاّ يكون قد قرأه كلّ مسيحيّ وحركيّ. هو كتاب مُصالحة مع غريزة وضعها الله فينا طاقةَ حياةٍ وتَوَثُّبٍ لنفرح ونتلذّذ في اللقاء الحبّي بين إنسان وإنسانة. يشرح فيه كوستي بندلي أنّ الجنس الإنسانيّ هو ليس بالغريزيّ البحت، كما عند الحيوان مثلاً الذي توجّهه غريزته الجنسيّة للتزاوج في أوقات وطقوس محدّدة وقسريّة، ويشرح أنّ الإنسان لا يكتفي بالغريزة المحضة بل يتّجه دوماً إلى أنسنتها، فتناول الطعام الذي يسعى من خلاله الإنسان لإشباع حاجة غريزيّة كالجوع لا يُسَرّ به الإنسان إلاّ مع الأحبّة. وبتحليل رائع يكشف لك ما تعرفه في قرارة نفسك -إنْ سمحتَ لنفسك أن تستمعَ لنفسك- يكشف لك أنّ اللّذة الجنسيّة نفسها تصير باهتة بلا حبّ. الوجه هو السرّ، الجنس تافه بلا وجه الآخر، واكتشاف وجه الآخر هو اكتشاف طاقة الحبّ فينا. هكذا في لقاء الوجوه يصير الجنس طاقة إيجابيّة تدفع بالإنسان للقاء الآخر والتوحّد به، فتُطِلّ عندها اللّذة ويُطِلّ الفرحُ كضوء من أضواء حضور الله في اللقاء الجنسيّ بين حبيبَيْن. إلاّ أنّ الجنس والحبّ البشريّ لا يحقّقان توق المحبّين إلى الحياة واللقاء الأبديّين، فـ"كلّ حيّ بعد الجماع كئيب"، كما يقول مثل لاتينيّ قديم، لأنّ وعد الأبد الذي يستقطب كياننا لا يتحقّق. هكذا فالجنس والحبّ البشريّ يشيران إلى ملء لا يعطيانه، فيبقيان في النهاية دليلاً وإشارةً إلى أفق، دليلاً إشارة إلى ذاك الذي يحقّق الحياة الأبديّة ووحدة المحبّين، ذاك الذي هو "المشتهى في الحقيقة"، الله. ويُكمِلُ كوستي هذا الكتاب بكتبٍ أُخرى هي "صورة المسيح في الزواج والأسرة" "والزواج درب الحبّ ومختبره" الذي كانت لزوجتي ولي متعة ِقِراءتِه سويّة، و"الجنس بين أنواره وظلاله".



في هذه الكتب كلّها، يرى القارئ أنّ الثالوث والحبّ والحرّية والخطيئة والتوبة واللقاء والتجسّد والصليب والقيامة والملكوت وقضايا الإيمان التي يكتب كوستي بندلي عنها في كتبه العقيديّة أو الدينيّة الطابع هي هي حاضرة في كتبه الاجتماعيّة أو السياسيّة أو الجنسيّة الطابع، حيث يُعطيها معنى جديداً متجسّداً في الحياة اليوميّة والاهتمامات الإنسانيّة الجسديّة والوجدانيّة والنفسيّة والسياسيّة والاجتماعيّة؛ ذلك أنّ عند كوستي بندلي الإيمان والحياة يتعانقان، وهذا هو لبّ جهده المتواصل، ولبّ إيماننا.


تورونتو 31-حزيران-2006

خريستو المرّ