" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
الرجوع الى القائمة
الدكتور أسعد قطان - نقد أدبي

ملاحظات على دور الأدب والنقد الأدبيّ

في فكر كوستي بندلي


"سأصير يومًا كرمةً،

فليعتصِرْني الصيفُ منذ الآن،

وليشربْ نبيذي العابرون على

ثُريّات المكان السُكّريّ"

محمود درويش


"لقد اجتهد كاتب هذا البحث بأن يكون أمينًا لجوهر التراث الإيمانيّ الذي تسلّمناه، ولكنّه حرص، بآن، على محاولة سكبه في صياغة تتوجّه إلى إنسان اليوم، الذي من حقّه علينا أن نأخذه على محمل الجدّ وأن ننقل إليه كلمة الحياة بلغة يفهمها. لذا، كان لا بدّ من اجتهاد في تأويل التراث يتحمّل الكاتب وحده مسؤوليّته، وهو على كلّ حال مطروح للمداولة والنقاش".

هذا المقطع مستقًى من التوطئة القصيرة التي خطّها كوستي بندلي في مستهلّ مؤلَّفه "كيف نفهم اليوم قصّة آدم وحوّاء؟" (ص 5) الصادر العام 1990 عن "منشورات النور". والكتاب توثيق لسلسلة تتألّف من أحاديث ستّة ألقاها بندلي، العام 1988، في ميناء طرابلس، وذلك ضمن إطار ما كان يُعرف بـِ "ندوة الثلاثاء". ماذا يحدو بندلي على التأكيد أنّه وحده يتحمّل مسؤوليّة المتضمَّن في كتابه هذا؟ أليس من البديهيّ أن يكون الكاتب، دون سواه، مسؤولاً عمّا يرد في كتابه من أفكار؟ من أين تنبع، إذًا، ضرورة التشديد على فكرة كهذه؟ الجواب نقرأه في الاقتباس ذاته. فالمؤلِّف يعي أنّ ما يُقدم عليه، هنا، ينطوي على تأويل للتراث قد لا يستسيغه بعض قرّائه. ولعلّ هذا ما ساقه إلى افتتاح توطئته المقتضبة بالقول: "الموضوع شائك وحسّاس. وقد تردّدتُ طويلاً قبل أن أُقدم على نشر مداخلاتي حوله" (ص 5). والحقّ أنّ قراءةً دقيقةً للنصّ الذي وضعه بندلي في تفسير قصّة آدم وحوّاء تُظهر أنّه لا ينحصر في الاستفادة من علوم النفس، التي يُلمّ بها كما لا يُلمّ بها سواه في أوساطنا، بل يستلهم أيضًا، بنسبة كبيرة، ما توصّل إليه علم تفسير الكتاب المقدّس في العقود الأخيرة، ولا سيّما عبر مقاربة قصّة الخلق في كتاب التكوين مقاربةً أدبيّةً ومقارنتها بآداب شعوب بلاد الرافدين ووادي النيل. واللافت أنّ بندلي، في تبنّيه بعض ما أسفرتْ عنه الجهود العلميّة في هذا النطاق، إنّما يبلغ الاقتناعَ بأنّ قراءةً لقصّة الخلق في الكتاب المقدّس تأخذ إنسان اليوم "على محمل الجدّ" لا بدّ لها من مخالفة بعض ما تراكم في التراث من مُنتَج تفسيريّ، لا من قبيل رفض مضمونه، بل من باب تبيان أنّ هذا المضمون قد لا ينسجم بالضرورة مع الحركيّة الدلاليّة في النصّ ذاته. فهذا النصّ، في قوّته الأصليّة، لا يسمح بالتمييز بين "الصورة" و"المثال" كما نعثر عليه لدى بعض الآباء الناطقين باليونانيّة (ص 25-26). والصورة الإلهيّة، في سياق النصّ، لا تعني العقل أو الإرادة أو الحرّيّة أو السعي إلى الكمال، كما ذهب إليه بعض المعلّمين الكنسيّين، على أهمّيّة هذه الفكرة وصوابيّتها، بل تشير إلى سيادة الإنسان على الطبيعة (ص 25).

غير أنّ تأويل التراث الذي يقوم به بندلي، هنا، لا ينفصل، في رأيه، عن اجتهاده في أن تأتي مقاربته أمينةً "لجوهر التراث الذي تسلّمناه". وهو، للأسف، لا يتوقّف، كثيرًا، عند هذه الفكرة. فلا يستغرق في شرح طبيعة هذا الاجتهاد، ولا يشير، صراحةً، إلى ما يعتبره واقعًا ضمن "جوهر" التراث بخلاف ما ينتسب إلى عَرضه. ولكن، ثمّة مقطع آخر، في الكتاب الذي نقتبس منه، ربّما يلقي ضوءًا على ما قد يكون بندلي قد رمى إليه: "ولكن كيف تكون، يا ترى، هذه السيادة الإلهيّة؟ إنّها على نقيض ما تتصوّره أهواؤنا. فقد عرفنا، في يسوع المسيح - الذي به وحده ومن خلاله نعرف الله حقّ المعرفة - أنّ سيادة الله إنّما هي سيادة المحبّة" (ص 32). يزيّن لي أنّ بندلي يومئ في هذا المقطع، ولا سيّما في جملته الاعتراضيّة، إلى ما يعتبره معيار التمييز بين "الجوهر" و"العرض" في التراث: يسوع المسيح الذي به، وحده، نعرف الله حقّ المعرفة؛ يسوع الذي كتب عنه رسوله، في أقدم قانون إيمان وصل إلينا، أنّه "مات من أجل خطايانا حسب الكتب، وأنّه دُفن، وأنّه قام في اليوم الثالث حسب الكتب، وأنّه ظهر لصفا ثمّ للإثني عشر" (1 كور 15/3-5). ولا غرو أن يرتبط الإيمان بيسوع، في ذهن كوستي بندلي، بكون سيادة الله هي سيادة المحبّة. فالمحبّة هي الشريعة الجديدة التي كشفها الله بموت ابنه على الصليب، وهي ثمرة القيامة في من اتّبع المصلوب والتصق به. إذا كان هذا التحليل صحيحًا، يكون اجتهاد بندلي في أن تأتي مقاربتُه قصّةَ آدم وحوّاء في وئام مع "جوهر" التراث مستندًا إلى اقتناعه بأنّ أثمن ما في هذا التراث هو البشارة بيسوع، أي بموته وقيامته وما كشفه عن أبيه وروحه وما استحثّ تلاميذه على السلوك فيه من محبّة وغفران. وما خلا ذلك، قراءات واجتهادات وتفاسير وصيغ لاهوتيّة مرتبطة بالعصر الذي نشأت فيه والأسئلة التي استتبعتْ مثل هذه النشأة والثقافة التي تحكّمت في هذه النشأة. وثمّة، في الكنيسة، حرّيّة في أن ننعم النظر في هذه القراءات والاجتهادات والتفاسير والصيغ بنور الروح القدس الذي ينير الإنسان بكليّتّه، بما فيه عقله، فنختلف مع بعضها، من دون أن نرفضه، ونقبل بعضها، من غير أن نضفي عليه صفة الإطلاق.

ولعلّ شيئًا من هذا قصد إليه كوستي بندلي، حين ميّز، في تناوله قصّة آدم وحوّاء، بين "القالب الأدبيّ" الذي صيغتْ فيه هذه القصّة والمضمون الفكريّ واللاهوتيّ الذي تشتمل عليه (ص 7-13). ويمعن بندلي في استجلاء هذا القالب وتحليل خواصه مميِّزًا بين ما يشير إليه بلفظ "أُسطورة" (mythe) وما يدلّ عليه بكلمة "ملحمة" (épopée)، ومسترسلاً في وصف مواضع التقاطع والانقطاع بينهما، ومبيّنًا السبيل إلى الإفادة من هذا التمييز، الذي يراعي طابع قصّة آدم وحوّاء الأدبيّ، بغية فهم أدقّ للمعاني المختزنة في هذا النصّ الرفيع. ويخيّل لي أنّ ما يسمّيه بندلي "قالبًا" أدبيًّا هو إيّاه ما اصطلح العارفون بالأدب على أن يُطلقوا عليه اسم "النوع الأدبيّ" (genre littéraire). إلاّ أنّ الفائدة التي نجنيها من هذه التسمية الأخيرة تكمن في أنّها توحي بأنّ القالب ليس مجرّد "قالب" يمكن فصله عن المعنى، كما نفصل، مثلاً، القالب الذي نستخدمه لإعطاء العجين شكلاً ما عن العجين، ما أن تُمتِّنه النار وتقسّيه. فالنوع الأدبيّ يؤثّر في طبيعة اللغة المستعملة في نصٍّ من النصوص ومدى شاعريّتها ومجازيّتها. وهو يطبع، بذلك، المعاني التي يودّ المؤلّف أن يفصح عنها، وذلك من باب الارتباط الوثيق بين الشكل والمضمون ومن دون إنكار حقّ واضع النصّ في الابتكار والتجديد. من هنا، أجنح، توضيحًا لمقاربة بندلي، في هذا المضمار، إلى التمييز بين "قالب" النصّ ومعناه ومرماه (intention). فالقالب هو الإطار الأدبيّ الذي فيه أتانا النصّ، كمثل قولنا إنّه أُسطورة أو ملحمة أو قصّة أو رواية أو كتابة تاريخيّة أو مقالة صحفيّة أو مَثَل أو عبرة إلخ. ومعنى النصّ هو ما تضمّنه من دلالات لا يمكن فصلها عن المفاهيم الثقافيّة التي كانت مهيمنةً في زمن كتابته. فقول المتنبّي "وما التأنيث لاسم الشمس عيب / وما التذكير فخر للهلال"، في رثاء أمّ سيف الدولة، لا يمكن التقاط دلالته الفذّة إلاّ عبر الرجوع إلى مفاهيم المجتمع الذكوريّ، في زمن الشاعر، التي كانت تقول بتفوّق الذكر على الأُنثى. أمّا مرمى النصّ فهو ما يقصد أن يولّده في القارئ من تغييرٍ وتوسيع الأُفق الفكريّ والوجدانيّ. فمرمى المتنبّي، في بيت الشعر المذكور أعلاه، ليس الإتيان بنظريّة في تفوّق الشمس على القمر، بل التأكيد أنّ أمّ سيف الدولة بزّت، في فضائلها، الكثير من الرجال.

خلاصة القول أنّ كوستي بندلي يعلّمنا، في سِفره عن قصّة آدم وحوّاء، أهمّيّة أخذ المقاربة الأدبيّة في الاعتبار، في تحليل أيّ نصٍّ من النصوص، بما في ذلك نصوص الكتاب المقدّس الموحاة. هذا الأخذ، إذا ترجمناه إلى لغة العلوم الإنسانيّة الحديثة، نسمّيه "النقد الأدبيّ". و"النقد"، هنا، لا يعني القدح والذمّ، بل معرفة الشيء معرفةً دقيقةً والإقبال عليه بوسائل العلم المتاحة لنا. ويكمن بعض أهمّيّة الدرس الذي نستمدّه من منهجيّة بندلي في أنّه لا يعتبر أنّ النصوص الموحاة تتوقّف، بسبب من إلهامها، عن كونها "نصوصًا أدبيّة". فالوحي الإلهيّ "بمفهومه المسيحيّ، عمليّة يساهم فيها الله والإنسان معًا (synergie). بمعنى أنّ الإنسان، في هذا المنظور، ليس مجرّد أداة نقل الكلمة الإلهيّة، بل إنّه يتلقّى هذه الكلمة بكلّ كثافته الإنسانيّة، التي تلطّفها وتنيرها كلمة الله - على قدر تناغمها مع تلك الكلمة - دون أن تلغيها أو تقفز فوقها. بعبارة أُخرى، فإنّ الوحي الإلهيّ، بمفهومه المسيحيّ، كلمة إلهيّة تتجسّد في كلمات إنسانيّة" (ص 16-17). ينتج من هذا أن ليس ثمّة، في نظر بندلي، منهج لتحليل النصوص الموحاة ومنهج آخر لتحليل النصوص "غير الموحاة". فالعنصر البشريّ في الكلمات الملهَمة يقتضي أن نستكشف غوامضها باللجوء إلى المناهج التفسيريّة ذاتها التي تُستخدم في مقاربة النصوص الأدبيّة على وجه العموم، وذلك بخلاف ما يذهب إليه بعض الغلاة من الأُرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت أنّ طبيعة النصّ الموحى تحتّم علينا الاستنجاد بمناهج من خارج العلوم الأدبيّة والاجتماعيّة والنفسيّة. طبعًا، هذا لا يستتبع أنّ النصوص الموحاة نصوص أدبيّة فحسب. فهي، كما يُظهر كوستي بندلي في كتابه عن آدم وحوّاء، تنطوي، من حيث معناها ومرماها، على رسائل إلهيّة، وذلك بصرف النظر عن البيئة الثقافيّة التي صيغت هذه النصوص في إطارها. كما أنّ ما قيل لا يعني، في أيّ حال من الأحوال، أنّ الشارح، في لجوئه إلى أحدث الطرائق التفسيريّة، هو في معزل عن الأنوار الإلهيّة التي يقذفها الله إليه. فكما أنّ الوحي عمليّة تآزريّة (synergique)، أي عمليّة تلاقٍ بين الله والإنسان، كذلك فإنّ التفسير، كما رأى إليه، مثلاً، القدّيس مكسيموس المعترف (حوالى 580-662)، ينبغي أن يأتي تآزرًا بين الطاقة البشريّة، أو الفعل البشريّ، والطاقة الإلهيّة، أو الفعل الإلهيّ. ومن النافل القول إنّ نموذج هذا التلاقي بين الإلهيّ والإنسانيّ هو يسوع المسيح نفسه لكونه، بحسب الإيمان المسيحيّ، كما عُبِّر عنه في مجمع خلقيدونية، شخص واحد لا يتجزّأ قائم في حقيقتَيْن، أو طبيعتَيْن، إلهيّة وإنسانيّة.

قصّة كوستي بندلي مع تثمين المقاربة الأدبيّة لم تبدأ في العام 1988، حين ألقى محاضراته الستّ عن الإصحاحات الأُولى في كتاب التكوين. فكتاب "أمثال الملكوت"، الذي نُشر العام 1983، يُظهر أن بندلي يُلمّ بالكثير ممّا كان النقد الأدبيّ قد توصّل إليه في ما يختصّ بأمثال يسوع، كما وردتْ في الأناجيل. ويشير بندلي، في توطئة شرحه الأمثال، إلى ارتكازه على الكتاب القيّم الذي وضعه الشارح الألمانيّ الكبير يواكيم يريمياس، في هذا المجال، بعدما اطّلع عليه في ترجمته الفرنسيّة الصادرة العام 1968 (ص 12). ورغم أنّ التوطئة لا تنبئنا بالأسباب المباشرة التي دفعتْ بندلي إلى وضع كتاب عن أمثال يسوع، من المفيد أن نذكر أنّ كتابه هذا افتتح سلسلة الدراسات الكتابيّة التي أصدرتها منشورات النور.

ولئن دارت الأمثلة التي انطلقنا منها أعلاه حول النقد الأدبيّ بوصفه مقاربةً علميّةً تساعدنا على إلقاء الضوء على الأبعاد الدلاليّة التي تنطوي عليها الكتب المقدّسة، إلاّ أنّ اهتمام كوستي بندلي بالأدب يتعدّى، ولا شكّ، إطار الأدب الدينيّ ليشمل، أيضًا، الأدب عمومًا. ويظهر هذا الاهتمام، بشكل جليّ، في أحد أبرز مؤلَّفات بندلي، أعني به كتابه "الجنس ومعناه الإنسانيّ"، الذي صدر في طبعته الأُولى، على حدّ علمي، في مطلع السبعينات. ولقد استندتُ، في ما يأتي، إلى الطبعة الثالثة لهذا الكتاب الصادرة عن منشورات النور العام 1985، وهي ترتكز على الطبعة الثانية "المزيدة" التي قدّم لها الكاتب العام 1980، مع تنويهه بأنّ عناصرها كانت جاهزةً منذ صيف العام 1975، لكنّ صدورها تأخّر بسبب الحرب الأهليّة اللبنانيّة (ص 5).

لا أخالني مخطئًا، إذا قلتُ إنّ لهذا الكتاب، كما يَظهر في طبعته الثالثة، دعامتين: الدعامة الأُولى هي معرفة كوستي بندلي الموسوعيّة بعلوم النفس والتربية ومختلف تيّاراتها وما صدر في إطارها، حتّى أوائل السبعينات، من مصنّفات علميّة. أمّا الدعامة الثانية فهي تضلّع المؤلِّف من الأدب تضلّعًا يندر نظيره خارج أوساط من يتعاطون الأدب إنتاجًا أو تنقيبًا أو تدريسًا. والحقّ أن بندلي يستعين، في متن كتابه "الجنس ومعناه الإنسانيّ" وحواشيه، بعشرات الأعمال الأدبيّة التي كان قد انكبّ عليها، إمّا في لغاتها الأصليّة وإمّا في ترجمات، وذلك لاقتناعه بأنّ الأدباء، قديمًا وحديثًا، التقطوا كثيرًا من حركات النفس الإنسانيّة ونزعاتها المنكشفة والمستترة، وعبّروا عنها في أعمالهم. وهو يكتب، في هذا الصدد، في مستهلّ الفصل الرابع من كتابه، الذي يحمل عنوان " آفاق الجنس": "لذا، كان لا بدّ لخبرة صميميّة كخبرة الجنس أن تتكشّف لنا عن آفاق بعيدة سنحاول، في هذا الفصل، أن نقول عنها شيئًا، منطلقين، هنا أيضًا، من الواقع الإنسانيّ، كما يتجلّى لنا في السلوك الفرديّ والحضاريّ وفي الآثار الأدبيّة" (ص 311). يُستخلص من هذا القول أنّ أهمّيّة الأدب، في رأي بندلي، لا تنحصر في مقاربة منهجيّة ذات طابع علميّ تتيح لنا القبض على بعض معاني النصوص الدينيّة وأبعادها، بل إنّ الأعمال الأدبيّة في ذاتها، من حيث مضامينها وبصرف النظر عن دراستها دراسةً علميّةً، خزّان يطفح بالعناصر المعنويّة التي تمكّننا من الإحاطة بالواقع الإنسانيّ على نحو أعمق وأشمل.

لقد ذكرتُ أعلاه أنّ بندلي يستنجد في "الجنس ومعناه الإنسانيّ" بعشرات الأعمال الأدبيّة. وهو، في هذا، لا يقتصر على ما يُدعى أدبًا "كلاسيكيًّا"، كأدب القرن السابع عشر في فرنسا مثلاً، بل إنّ صفحاته تتموّر بلمعات من الأدب المعاصر، ولا سيّما في الرواية والشعر. واللافت أنّه، في هذا، ينتمي إلى طليعة البحّاثة النفسيّين والاجتماعيّين في ديارنا الذين ثمّنوا الأدب العربيّ المعاصر، ولا سيّما الرواية، ومن المعروف أنّ هذه كانت، في مطلع السبعينات، ما تزال تشقّ طريقًا محفوفًا بالمخاطر، إذ لم تكن، كما هي عليه اليوم، قد فَرَضتْ ذاتها أداة الأدب العربيّ الأكثر انتشارًا، وذلك على حساب الشعر الذي بقي، طيلة قرون، كنـز العرب الأدبيّ وقدس أقداسهم. فمن روايتَيْ "الحيّ اللاتينيّ" (بيروت 1965) و"أصابعنا التي تحترق" (بيروت 1967) لسهيل إدريس (ص 154 و196) مرورًا بخليل تقيّ الدين (ص 53) في روايته "العائد" (بيروت 1968) ورائعة توفيق يوسف عوّاد (ص 90 و362) "طواحين بيروت" (بيروت 1972) وصولاً إلى غادة السمّان (ص 69 و83) في روايتها "بيروت 1975" (بيروت 1975) قائمة لا يُستهان بها تنمّ عن مدى اطّلاع بندلي على الأدب العربيّ المعاصر الذي سبق، بردح يسير، إنجاز كتابه "الجنس ومعناه الإنسانيّ" أو إنجاز طبعاته المزيدة. فضلاً عن ذلك، لا يُهمل بندلي تراث أُدباء وروائيّين أقدم من المشار إليهم آنفًا، مثل نجيب محفوظ (ص 160) ومارون عبّود (ص 369)، وإن كان أقلّ استعانةً بالشعر العربيّ في وجهيه الكلاسيكيّ (راجع ص 343) والمحدِّث.

تُظهر هذه الملاحظات، على سرعتها وطابعها غير الشموليّ، مدى حضور الأدب والمناهج الأدبيّة في فكر كوستي بندلي سواء في جانبه المختصّ بعلم النفس والتربية أو في مداه اللاهوتيّ، وخصوصًا الكتابيّ- التفسيريّ. والحقّ أنّ بندلي ينتمي، على هذا الصعيد، إلى قلّة رياديّة من مفكّري المشرق العربيّ يتّسم إنتاجهم بموسوعيّة ذات طابع مزدوج. فنحن، أوّلاً، أمام موسوعيّة كمّيّة عنوانُها اطّلاع واسع النطاق على الأدب الإنسانيّ في وجوهه كافّةً. ونحن، ثانيًا، حيال موسوعيّة نوعيّة قوامها الوعي أنّه حريّ بالباحث ألاّ يتقوقع وراء حدود اختصاصه ومنهجه، بل أن يطلّ على آفاق معرفيّة أُخرى، وذلك انطلاقًا من الاقتناع بأنّ المنظورات المعرفيّة، على اختلافها، لا تتضارب بالضرورة، بل هي كثيرًا ما تتقاطع وتتكامل، في سبر غور الوجود الإنسانيّ. من هنا تصدر محاولةُ كوستي بندلي الجريئةُ استدخالَ الأدب وعلم الاجتماع والفلسفة في مقاربته المعرفيّة المتّكئة، بنسبة عالية، على علوم النفس والتربية. يضاف إلى ذلك، طبعًا، أنّ بندلي ينتسب إلى قلّة عزيزة ممّن تعاطوا ويتعاطون الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ سالكين، في خضمّ تحدّي المعاصَرة، سُبُل إغنائه واستنطاق طاقاته الكامنة، وذلك عبر رفده بالمعارف الإنسانيّة جملةً، بما في ذلك المعرفة الأدبيّة منهجًا ومضمونًا.

في ضوء ما قيل، لا يبدو غريبًا أن يضع كوستي بندلي دراسةً، لم تُنشر بعد، في واحد من أبرز النصوص الأدبيّة العربيّة التي شهد القرن العشرون ولادتها، أعني به رائعة نجيب محفوظ "أولاد حارتنا". ولا أخالني أُفشي سرًّا كبيرًا، إذا أشرتُ إلى هذا الأمر على صفحات مجلّة "النور"، وذلك في إطار عدد يهدف إلى إيفاء هذا الرجل الكبير بعض حقّه. فإذا كان الأمر كذلك، أستميحه المعذرة. ولكنّ ما لا يخالطه ريب هو أنّ قرّاءً كُثُرًا، متى نُشرتْ هذه الدراسة، لن يستزيدوا بجديد من فكر كوستي بندلي فحسب، بل سيعثرون فيها أيضًا على مَعْلم آخر من معالم علاقة هذا الفكر الخلاّق، الإنجيليّ الصبغة، بالأدب الإنسانيّ.

إنّ مَنْ انغرس في الإنجيل، فعَمُقَ حبًّا واتّسع مدًى، لا تزيد كلماتنا التكريميّة على قامته شيئًا. أمّا نحن، مَنْ تتلمذنا وشربنا عصير كرمته، فلنا رجاء أن نُعطى ونزاد!

أسعد قطّان