" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
الرجوع الى القائمة
المطران يوحنا منصور

كتابات كوستي بندلي: إنسانيّتها، عمقها وروحانيّتها


حصل لقائي مع الأخ كوستي بندلي على صورتين متوازيتين. جاء لقائي الأوّل معه في مؤتمرٍ لمسؤولي طفولة حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في صيف 1949، فرأيته إنساناً طيّباً وديعاً متواضعاً، وكان كلُّ واحد من المشاركين في ذاك المؤتمر يشعر بأنَّ الأخ كوستي قريب منه. وانتهى اللقاء وكلٌّ منَّا يشعر بأنه استفاد من كلام الأخ كوستي ومن مواقف محبّته للجميع. وتوالت السنون، وكنتُ ألتقي به بين الحين والآخر. وكلَّما التقيته، ازداد إعجابي بهدوئه ورصانته وتواضعه.

وجاء لقائي الآخر به من خلال كتاباته المتنوِّعة المفيدة، وما عسى المرء يقول فيها! عندما يقرأ الإنسان كتابات الأخ كوستي بندلي الشاملة، من حيث تناولها العالمين النفسيّ والتربويّ الأخلاقيّ، تستوقفه ثلاث محطّات بالغة الأهمّيّة والأصالة من وجهة النظر المسيحيّة: إنسانيّتها، عمقها وروحانيّتها. فقبل كلّ شيء، يستشفُّ قارىء الأخ كوستي بندلي عمقَ تحسُّسه للقضايا الإنسانيّة، ويدرك جدّيّة التعاطي بها من مختلف الصُّعُد. وبهذا السياق، يستنهض في قرَّائه كافّةً اتّخاذ مواقف سليمة في حياتهم حيال هذه الأمور. ثمّ إذ يتناول القضايا التربويّة الأخلاقيّة فهو يغوص فيها إلى مدى يحاول فيه أن يكشف خبايا الأمور، ولوجاً من باب العلم الذين تلقِّحه كلمة الله الحيّة وخبرةُ الآباء القدّيسين الأصيلة. إنّه لا يقف أمام المواضيع الشبابيّة وتحدّيات العصر، كالجنس وفتنة الاستهلاك وإلى غير ذلك، موقفَ اللامبالي، بل يدأب، بغيرة رسوليّة، في كشف جذورها ومعالجتها ساعياً بذلك إلى بناء الإنسان السليم وتالياً المجتمع السليم.

جدير بالملاحظة هنا أنَّ الأخ كوستي بندلي يُعتَبَر رائداً فكريّاً معاصراً بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى. فهو من أوائل الذين كتبوا في مجال العلاقة القائمة ما بين الحياة الروحيّة وتأثيراتها الاجتماعيّة في حياة المؤمن كما في كتابيه "البعد الاجتماعيّ للحياة الروحيّة" و"الإيمان والتحرير"، كما ومميَّزة هنا الطريقة التي يعرض فيها المدخل إلى العقيدة المسيحيّة، الأمر الذي كان غير مطروق أكاديميّاً باللغة العربيّة على هذه الشاكلة.

والأمر الأكثر أهمّيّة مما سبق هو أنَّ الأستاذ المربّي والأخ المرشد كوستي بندلي، قد سخَّر علمه لخدمة الهدف الأسمى، الحياة في المسيح. وكتاباته كلها تندرج تحت هذا المضمار. فهو يتطرّق للأمور، لكي يتمكّن القارئ، في نهاية المطاف، من الالتفات إلى دور الكلمة الإلهيّة في توجيه حياته في شتّى الظروف والأحوال التي يواجهها والأطر الاجتماعيّة التي يعيش فيها. يرسم الأخ كوستي في مؤلّفات عدة له أيقونةً فكريّة أرثوذكسيّة، أيضاً بالغة الأهمّيّة على صعيد الأسرة، ويكشف فيها صورة المسيح. كما يطرح، بطريقة مستجدّة عربيّاً أيضاً، المدخل إلى القدّاس الإلهيّ وأمثال الملكوت. الأمر الذي إن كشف عن شيء، فهو يكشف لنا عمق انغراس فكر المسيح في قلبه، وينطبق عليه في هذا الشأن أنّه تلميذٌ على درب الملكوت "يخرج من كنزه جُدُداً وعتُقاً".

إنه يتلقَّف علمه ويعجنه مع خبرته الحياتيّة ضمن بوتقة المسيح، ويغذّيه بنار الممارسة الإيمانيّة المشهود له بها، وبالتالي يُدلي بطروحات تندرج تحت روح الكنيسة الأمّ التي ترعى أبناءها بالمحبّة والحنان. وهو، بعمله هذا يوظِّف موهبته التي منحه الروح القدس إياها في خدمة بناء جسد المسيح، الكنيسة المقدّسة والمجتمع ككلّ.



المطران يوحنا منصور