" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
بماذا العالم مدين للمسيحية

مقدمة

إننا نسمع أحيانًا بعض اللامؤمنين، وأحيانًا بعض المسيحيين يتساءلون: ماذا قدمت المسيحية للإنسانية وها قد مضى على وجودها ألفا سنة؟ هل أعطت خبزًا للجميع؟ هل أوقفت حروبًا؟ هل نشرت العدل والسلام في المجتمع؟
وبعد أن ينظروا إلى الناس كيف لا يزالون يستغلّون بعضهم البعض وكيف لا يزالون يقتتلون يستلخصون من كل هذا أن المسيحية قصّرت في اداء رسالتها. ولكننا نستطيع أن نجيب عن هذا بالاعتبارات التالية:

1-أن المسيحية نداء يوجهه الله إلى الإنسان الذي يستطيع بكل حرية أن يستجيب له: "إن أراد أحدكم أن يتبعني فليحمل صليبه ويتبعني". وهكذا نرى أن كل جواب في نظر المسيح، يفقد قيمته إذا لم تكن الحرية مصدره، ولذلك أعلن بنفسه أن المسيحيين الحقيقيين قليلون "ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة".

2-فالمسيحية في جوهرها تهتم إذًا أن تقود الإنسان بملء حريته إلى الحياة الأبدية. ولكنها لم تدّع يومًا بأنها تنظّم مباشرة الحياة الأرضية، فقد قال المسيح: "إن مملكتي ليست من هذا العالم". وإذا كانت المسيحية تعطي بعض قواعد عامة تنظّم علاقات الناس بعضهم ببعض، فهي لم ترد يومًا أن تعفي الناس من مهمة التفكير، هم أنفسهم وبواسطة العقل الذي أعطاهم إياه الله، بالوسائل التي تحقق عمليًا هذه القواعد فينظّمون المجتمع على هديها. فالمسيحية لا تحوي برامج سياسية أو اقتصادية، إذ كيف يمكن لحقيقة الله المجردة، الخالدة، أن تخصص برامج مثل هذه ناقصة ومتغيرة مع العصور والأمكنة؟ ولكن، يمكن لبرنامج سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أن يستوحي من المسيحية، أو يأخذ عنها بعض أشياء، دون أن يتوحد معها.

ومع ذلك فان المسيحية، وهي دين التجسد، متجسدة وممزوجة هي أيضًا بعجينة الحياة الأرضية كما أنها ملح هذه العجينة وخميرتها: "أنتم ملح الأرض... وإن ملكوت السماوات يشبه خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع". وكان تأثير هذا الخمير بطيئًا كتأثير كل خمير آخر. كذلك ما هي قيمة ألفي سنة بالقياس إلى عشرات آلاف السنين التي مضت على وجود الإنسان؟ ولكن هذا لا يمنع كون تأثير المسيحية، في تاريخ الإنسانية، حقيقيًا وقويًا، كما سنبين فيما يلي:
1-كانت تسيطر على الأقدمين فكرة الحتميّة، وهي فكرة طالما بعثت الشلل فيهم لأنها جعلتهم يرضخون دون أدنى مقاومة لضغط كون لا يسعون لتحويله. ولكن المسيحية جاءت فبعثت في هذا المجتمع الهرِم المخدَّر فكرة ثوريّة، وهي أن الإنسان خُلق على صورة الله ومثاله وأخذ من خالقه رسالة السيطرة على العالم، حسب ما جاء في التوراة: "إنميا وأكثرا واملآا الأرض وتسلطا عليها". وهكذا استطاع الإنسان أن يندفع بملء الثقة، إلى افتتاح العالم دون خوف من أن تحطم جهوده ألوهية معادية كما في أسطورة بروميثيوس.

2-كان الأقدمون يعتقدون بوجود آلهة عديدة تدير العالم حسب أهوائها الارتجالية والمتضادة. ولكن جاءت المسيحية فنشرت بعكس ذلك فكرة الإله الواحد الذي يدير العالم حسب قوانين ثابتة وضعتها حكمته. وبهذا نرى أنها جعلت العالم، ليس ألعوبة للآلهة، بل تسببًا عقليًا، فأتاحت بذلك للأفكار العلمية أن تنمو وتزدهر.

3-كان الأقدمون يعتقدون بتكرار منتظم للحوادث بعينها، فنظرتهم إلى التاريخ كانت كنظرتهم إلى حلقة مقفلة لا تتغير أو تتحرك "لا جديد تحت الشمس". أما المسيحية فتقول عكس ذلك وهو، أن العهد القديم كان بمثابة تهيئة لتجسد المسيح، أما العهد الجديد فهو انتظار لا راحة فيه لمجيئه الثاني والمجيد، فأعطت بذلك معنى للتاريخ وجعلت من فكرة التطور التي تحتل مركزًا مرموقًا في أفكار العصور الحالية الأساسية، شيئًا ممكنًا ومستطاعًا.

4-كان الأقدمون يعتقدون أن بعض الناس يمكن أن يُستعملوا كأدوات ووسائل لخدمة غيرهم من الناس: فالعبيد مثلاً في الإمبراطورية الرومانية كانوا يعتبرون كأشياء لا غير (res باللاتينية). ولكن المسيحية، بإعلانها أن الإنسان خُلِق على صورة الله ومثاله وافتدي بدم ابن الله، قد نشرت فكرة كرامة الشخصية الإنسانية اللامتناهية. وبعد أن أصيب الرق بهذه الضربة في الصميم، جاء التطور الآلي فقضى عليه القضاء المبرم.

5-ونتيجة لتعاليمها عن كرامة الشخصية الإنسانية، فقد نشرت المسيحية فكرة الحرية: "حيث روح الله فهناك الحرية"، وأيضًا "لقد افتديتم بثمن غال فلا تصبحوا عبيدًا للناس"، كما جاء في رسائل بولس الرسول. وقد تحققت هذه الفكرة على الصعيد السياسي عندما سمح بذلك التطور التاريخي.

6-والمسيحية بإعلانها، أنه "ليس بالمسيح عبد ولا حرّ" كما قال بولس، وأن "من أراد أن يكون بينكم أولاً فليكن للكل عبدًا" كما قال يسوع، قد بعثت فكرة المساواة، حسب إقرار علماء الاجتماع الرصينين، من مؤمنين وغير مؤمنين.

7-والمسيحية بتأكيدها أن مفهوم القريب مفهوم شامل عام، وأن على اليهودي أن يحب حتى السامري، أي الرجل الذي لا يمت بصلة، لا إلى عرقه ولا إلى دينه، قد أعطت فكرة الاخوّة الإنسانية العامة، بينما كان الغريب في العصور القديمة الوثنية يعتبر كعدو (فمثلاً تعني كلمة hostes اللاتينية، الغريب، والعدو في آن واحد) كما أن القريب عند اليهود كان يعني اليهودي فقط. وفي ذلك قال برغسون "إننا لا نشك أن الانتقال من الانكماش إلى الانفتاح يعود فضله إلى المسيحية".

8-وبينما كان على سكان المدينة الواحدة، في العصور القديمة الوثنية، أن يتعبدوا لآلهة هذه المدينة، فيُخضعوا حتى ضمائرهم للقواعد الجماعية (راجع La Cité Antique لفيستل دي كولنج)، جاءت المسيحية وأعلنت أن مملكة قيصر متميّزة عن "مملكة الله"، فعلّمت الناس أن فيهم شيئًا خارجًا عن سلطة الدولة، فانتشر هكذا مبدأ "حرية الضمير" الذي كان مجهولا في العصور القديمة الوثنية. ولذلك نستطيع القول بأن الشهداء المسيحيين العديدين، الذين، مع إعلانهم خضوعهم للإمبراطور، قد رفضوا أن يعترفوا بسلطته على أرواحهم، كانوا في الوقت نفسه شهداء "حرية الضمير".

9-وبينما كان الضعفاء في العصور القديمة الوثنية، محتقرين، حتى لَيقتلون أحيانًا (ففي اسبرطة مثلاً كانوا يقتلون الأطفال الضعفاء منذ ولادتهم كي يحفظوا للسلالة قوتها)، حتى أننا نستطيع القول إنه كانت هناك عبادة للقوة الغاشمة (كما في تذوّق الشعب الروماني لمعارك المصارعين الوحشية)، جاءت المسيحية ففرضت على العالم احترام "الضعف والشقاء" بإعلانها قيمة الشخصية الإنسانية اللامتناهية. فإذا طالبنا اليوم بحقوق الضعفاء والمضطهدين أليس عملنا هذا صدى كلام المسيح: "الحق أقول لكم، إن كل ما تفعلونه بأحد هؤلاء الصغار فبي تفعلونه" أو كلام بولس: "إختار الله ما هو ضعيف في العالم ليخزي الأقوياء". كذلك ألم تكن عادة القديسين أن يرفعوا صوتهم مدافعين عن الضعفاء، والمضطهَدين، كما جرى عندما تصدّى القديس امبروسيوس أسقف ميلان لبطش الإمبراطور ثيودوسيوس) حتى أنهم لَيبذلون حياتهم في سبيل ذلك، فمات القديس فيليبس متروبوليت موسكو مخنوقًا بأمر من الطاغية ايفان الرهيب لأنه جسر أن يعارضه في مظالمه.

10-كذلك فإن المرأة بعد أن كانت قديمًا تُعتبر كمخلوق أدنى، أتت المسيحية فأعلنت أنه "ليس في المسيح لا ذكر ولا أُنثى، بل الجميع واحد في المسيح". وهكذا رفعت الجنس النسائي ممهدة بذلك السبيل لفكرة المساواة بين الرجل والمرأة، التي ظهرت حديثًا.

11-كما أن المسيحية بإعلانها أن الزواج عطاء كلي متبادل في حب يقود حتى إلى تضحية الذات: "أيها الرجال أحبوا نساءَكم كما أَحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها"، قد غيّرت مفهوم الزواج الذي كان يعتبر قديمًا كضمان لمصالح مشتركة ووسيلة لإطفاء الشهوات أو لتأمين تكاثر النسل البشري. وهكذا هيأت التيار الحديث الذي يشدد على قيمة الحب في ذاته.

12-وهكذا إذ نشرت المسيحية في العالم رسالتها في المحبة، بعثت في الوقت نفسه، في بعض الناس، الشوق إلى بذل جهود أقوى في سبيل جعل العالم أصلح لسكنى أخوتهم، وبذلك عرفت السيطرة على العالم انطلاقًا جديدًا حسب قول برغسون الشهير: "إن التصوّف يستدعي الصناعة". وهكذا فإننا رأينا الرهبان في العصور الوسطى يفلحون الأرض ويعلّمون الشعوب البربرية، الزراعة والصناعة، فتسبب عن هذا ازدهار اقتصادي لم يتوقف إلى الآن.

13-والمسيحية بإعلانها على لسان آباء الكنيسة (القديس امبروسيوس والقديس باسيليوس والقديس يوحنا الذهبي الفم) أن خيرات الأرض قد وضعت من الله تحت تصرف كل البشر، وأن الملكية الفردية هي نتيجة للخطيئة، وأن كل ما يفيض عن حاجات الأغنياء يؤول شرعيًا إلى الفقراء، وأن حسب قول الإنجيل: "من له ثوبان فليعط أحدهما لمن لا يملك شيئًا"، قد أعلنت فكرة "العدالة الاجتماعية" وغرست بذور المفاهيم الحديثة التي ترمي إلى توزيع عادل للثروات.

وهكذا نرى أن العالم الحاضر تتداخله فتمتزج به الأفكار المسيحية. وإذا كانت هذه الأفكار قد شُوِّهت جزئيًا بامتزاجها بمفاهيم لا دينية أو لا أخلاقية، وإذا كان الناس قد نسوا، في كثير من الأحيان، مصدرها، فهذا يعود إلى خطأ المسيحيين الذين لم يجسروا أن يعيشوا إيمانهم كاملاً، لما يكتنف ذلك من مخاطر وصعوبات. ومن هنا حاجتنا إلى شواهد حية، إلى مسيحيين يجاهدون بشجاعة ليجسدوا مسيحيتهم ويُظهروا، من خلال حياتهم، الوجه المضيء الذي هو الطريق والحق والحياة ونور العالم ومحب البشر.
العدد السابع من مجلة النور 1956