" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
هل يمكن العيش إنجيليًا؟
      “هل نستطيع أن نكون مسيحيين حقًا، وأن نتمثل المسيح في حياته ومواقفه وتعاليمه (مثلاً: أحبوا أعداءكم … مَنْ ضربك… باركوا لاعنيكم …)؟”.

مقدمة:
هذا سؤال يطرحه غير المسيحيين بشكل انتقاد موجّه إلى المسيحية، فيقولون أن مبادئها جميلة جدًا، ولا شك، ولكنها غير قابلة للتطبيق. ولكن المسيحيين كثيرًا ما يطرحونه هم أيضًا على أنفسهم، متسائلين عن جدوى إيمانهم وجهادهم. وقد يقودهم هذا التساؤل إلى الشك وأحيانًا إلى القنوط.

أولاً:خلفيات خاطئة قد تكمن وراء السؤال.
قبل الإجابة عن هذا السؤال البالغ الأهمية، لا بدّ من إيضاح الخلفيات التي ينطلق منها. ذلك أن الحرص على طرح السؤال، أي سؤال، من منطلقات سليمة، لخير وسيلة تمكننا من الإجابة عنه بشكل صحيح. أما بالنسبة للسؤال الذي نحن بصدده، فلا بدّ من الإشارة إلى أن خلفيات خاطئة كثيرًا ما تمكن وراء طرحه، مما يؤول إلى جعل الإجابة عنه عسيرة جدًا أو مشوهة. ولسوف أحاول أن أوجز هذه الخلفيات الخاطئة فيما يلي:
1-قد يفترض طارح السؤال أن المسيحية مثال أعلى يقدمه لنا المسيح في شخصه ويطلب منا أن نقتدي به ونحذو حذوه. ولكننا سرعان ما نكتشف أن هذا المثال أبعد ما يكون عن متناولنا – خاصة وأننا كثيرًا ما نتصور المسيح مجرد إله ليس له من البشرية سوى الصورة والمظهر – فنشعر إذ ذاك أن المهمة الملقاة علينا إنما هي مهمة مستحيلة.
2-وقد يكون وراء السؤال افتراض بأن المسيحية إنما هي مجموعة فرائض لا بدّ من إتمامها لكسب رضى الله. ولكننا سرعان ما نكتشف أن هذه الفرائض تفوق طاقتنا، فينشأ لدينا، من جراء ذلك مزيج من الشعور بالإثم (لأننا لم نتمم الفرائض) من جهة ومن الشعور بالمرارة والعداء من جهة أخرى (فنتصور أن الله يطلب منها المستحيل، لا بل انه يطلب منا هذا المستحيل باسم محبته لنا، فتتحول هذه المحبة في نظرنا إلى فخ رهيب ينصبه لنا، إلى ابتزاز يمارسه علينا، ويتحول الله في عينينا إلى جلاّد مقنّع بقناع المحبّة). وكثيرًا ما نعالج هذه المعاناة لا بالمواجهة بل بالمواربة، فننفّس عن ضيقنا بموقف عدائي من الآخرين، إذ نتخذ من “الفرائض” المسيحية ذريعة للتسلط عليهم وادانتهم على نمط ما يتراءى لنا من أن الله يتسلط علينا ويديننا، ونشمت بفشلهم في عيشها كي نتناسى فشلنا نحن وما يلحقه بنا من خيبة ومرارة. ولكننا، بتصرفنا على هذا المنوال، نزداد توغلاً في الابتعاد عن “الواجبات” التي وضعناها نصب أعيننا وعن “المثال” الذي رسمناه لأنفسنا، فتزداد معاناتنا وتشتد، بالتالي، محاولاتنا للتنفيس عنها، فنقع في دوامة لا نهاية لها.
خطأ هذين الطرحين كامن في انهما يفترضان بأن “المبادئ” المسيحية إنما هي شيء يُلقى من الخارج ومن فوق على إنسان بقي على وضعه القديم والمألوف، أي وضع كائن تتحكم به الغرائز والأهواء، كائن يتخذ من ذاته محورًا للوجود ولا ينظر إلى الآخرين إلا من خلال مصالحه وحاجاته. عند ذاك فلا بدّ من ملاحظة التباين الرهيب بين الوضع الراهن للإنسان هذا وبين ما يطالَب به، ولا بدّ لهذه المطالبة أن تبدو عند ذاك ضربًا من التعجيز. فمثلاً تبدو وصية محبة الأعداء، من هذا المنظار، إما تنكرًا فاضحًا لطبيعة الإنسان ورغبته الصميمة في الانتقام من الأذى اللاحق به، أو تكريسًا لطبيعة عاجزة جبانة يتحكم بها الخوف فيقتل فيها غريزة الحياة.
3-هذا لأن السؤال الذي نحن بصدده، كثيرًا ما يخفي في طياته افتراضًا بأن الإنسان الحقيقي إنما هو إنسان الأنانية والأهواء. وانه من “الطبيعي” أن يندفع وراء هذه وتلك، مما يؤكد الهوة بين “المسيحية” (كما تُفهم على ضؤ ما أسلفنا) وبين “الحياة” (بمفهومها الذي نورده هنا)، ومما يجعل الأولى بالتالي أمرًا غريبًا بالكلية عن الحياة الحقيقية ومتطلباتها. فلا يبقى بالتالي من مبرر لاتباع “المبادئ المسيحية” سوى أوامر إله غريب يفرض على مخلوقه بأن يسلك على نقيض ما فُطر عليه، رغبة في اقتناء “حياة أبدية” تفهم على إنها مجرد الحياة بعد الموت في سماء لا تمتّ بصلة إلى الأرض كما نعرفها والإنسان كما نختبره. فيصبح المسيحي، في هذا المنظار، وكأنه إنسان يدير الظهر للحياة الواقعية ويعيش في انتظار موت يفتح له أبواب عالم غيبـيّ.

ثانيًا:الطرح السليم للسؤال.
من هنا انه ينبغي لنا، إذا شئنا أن نجد جوابًا عن السؤال المقلق الذي نحن بصدده، أن نعيد طرحه من خلفية أخرى، هي خلفية الخبرة المسيحية الأصيلة التي كثيرًا ما تختفي، للأسف، وراء طروحات لا تمتّ إليها بصلة.
فإذا عدنا إلى هذه الخبرة وجدنا أن السلوك الإنجيليّ ليس مفروضًا من الخارج على إنسان غريب عنه بطبيعته، إنما هو السلوك النابع تلقائيًا من الحياة الجديدة التي يفجّرها الإيمان في ذلك الإنسان. كما إننا نجد، من ناحية أخرى، أن هذه الحياة الجديدة ليست تنكرًا للحياة الحقيقية الراهنة، وإن تصدّت جذريًا لانحرافاتها الشائعة، إنما هي تحقيق لتوقها الأصيل وانتصار له على ما يكتنفه وكثيرًا ما يحبطه من بؤس وزيغ.

1-السلوك الإنجيلي نابع تلقائيًا من الحياة الجديدة التي يفجرها الإيمان.
فمن جهة، ليس المسيحي إنسانا يُفرض عليه سلوك يتنافى مع واقعه. بل هو ذاك الذي دبّت في أعماقه حياة جديدة تتخذ لها تلقائيًا سلوكًا يتناسب ونوعيتها ومتطلباتها. من هنا انه في انسجام عميق مع ذاته إذا سلك وفقًا للخطّ الإنجيليّ، لأن هذا الخطّ إنما هو التعبير الصحيح الوحيد عن رؤيته الجديدة لنفسه وللوجود وعما يرافق هذه الرؤية من توق عميق إلى تحقيقها في الوجود الراهن.
ولنأخذ مثلاً يوضح لنا طبيعة هذا التحوّل. فلنفترض رجلاً بقي الجنس عنده نزوة أنوية لا ترى في المرأة سوى وسيلة لإشباعها. هذا طالما بقي على هذه الحال، لا بدّ وأن تبدو له العفة الإنجيلية إما قمعًا لا يُطاق لحيوية الإنسان (لأنه لا يتصور حيوية على غير شاكلة حيويته هو)، أو سلوكًا لا يليق إلا بمن من انعدمت ذكورتهم فأصبحوا أشباه رجال. ولكن هذا الإنسان، إذا أحب يومًا، يكتشف في المرأة عند ذاك لا مجرد جسد بل وجهًا، بكل ما في هذه الكلمة من تعبير عن الشخصية المتميزة الفريدة. فلا بدّ إذ ذاك أن يبرز في نفسه شعور جديد، وهو شعور عميق بالاحترام، للمرأة المحبوبة أولاً – اذ لم يعد ممكنًا بحال من الأحوال أن يعاملها وكأنها شيء ووسيلة بعد أن تكشفت له أعماق إنسانيتها – ثم لكل امرأة، من باب التوسع، إذ ينقل إلى كل امرأة ما اختبره مع المرأة المحبوبة. هذا الإنسان يكتشف عند ذاك المعنى الحقيقي للعفة فتبدو له إنها السلوك “الطبيعي” الوحيد للإنسان الجديد الذي تحوّل إليه.
أ‌-السلوك الإنجيلي نابع من انقلاب داخليّ.
على هذا القياس، فإن المسيحي هو ذاك الذي حصل فيه انقلاب داخليّ لا بدّ وان يعبّر عنه بنهج جديد في السلوك. ولا قيمة لهذا السلوك إلا إذا كان تعبيرًا عن هذا الانقلاب الداخلّي. فقد يمتنع المرء عن الانتقام تجنبًا للمشاكل، وقد يعفّ حفاظًا على سمعته بين الناس. هذا سلوك يُفهم، وقد تكون له بعض المشروعية، ولكنه ليس بالسلوك المسيحي وليست له أدنى قيمة على المستوى الإنجيليّ. بهذا المعنى قال الرسول بولس:
“ولو فرقت جميع أموالي وقدمت جسدي ليُحرَق، ولم تكن لديّ المحبة، فما يجديني ذلك نفعًا”.
(1 كورنثس 13: 3)
الانقلاب الذي نحن بصدده إنما هو إذًا انقلاب “المحبة”، أي أن أتحوّل من كتلة من الغرائز والنـزوات والمخاوف والمصالح، إلى كائن محبّ، لا تزول منه كل تلك العوامل والقوى الآنف ذكرها، إنما تسودها وتضبطها وتصقلها وتوجهها المحبة.

ب‌-كيف يتمّ هذا التحوّل؟
ولكن كيف يتمّ فيّ هذا التحوّل؟ انه لا يتمّ بمجرد عملية إرادية، أي أن أقرر بأن أكون محبًّا. فإننا إذا افترضنا ذلك، نكون قد عدنا إلى “الفرائض” و”المثل” وإلى ما تؤدي إليه، كما رأينا، من طريق مسدود. بل ينبغي لهذا التحوّل، كي يكون فعليًا، أن يأتي نتيجة خبرة واكتشاف.

* أن أختبر أولاً بأنني محبوب
كل منا يعرف كم بوسع الإنسان أن يتغير إذا شعر بأنه محبوب، وكيف تنفكّ عند ذاك القيود التي تربطه بذاته المنطوية، وكيف يتحرر من قوقعة أنويته الضيقة، الخائفة، المستأثرة، البخيلة، وكيف يولد عنده هاجس الآخر، وكيف يصبح قابلاً لمجازفة السخاء.
والحال أن المسيحي هو من اختبر حبّ الله له، هذا الحبّ الذي يتكشّف له في يسوع المسيح، ذاك الذي عرفنا به وفيه حبّ الله “الجنونيّ” (نقولا كاباسيلاس) للإنسان، متجليًا في تضميد الجراحات الإنسانية على اختلافها، في حنان مغدق على كل صنوف بؤس البشر ومعاناتهم، في احترام مذهل لحرية الإنسان حتى إذا توغلت في رفض الله حتى الصلب، في مشاركة الإنسان جحيم آلامه وموته وعزلته كي يشرق في ذلك الجحيم نور القيامة وانتصار الحياة.
يكتشف المسيحي هذا الحبّ ليس فقط عبر صفحات الإنجيل، إنما أيضًا في ذلك الإنجيل المُعاش الذي هو حضور المسيح فيما بيننا “كل يوم وإلى منتهى الدهر” (متى 28: 20)، هذا الحضور الذي يتجلى في الصلاة الفردية والجماعية – وخاصة وليمة المحبة التي يُدعى إليها المؤمن في كل قداس – كما يتجلّى في كل محبة بشرية أصيلة يلمسها ويتقبلها المؤمن ممن يحيطون به، عبر علاقات الأبوة والبنوة والجيرة والرفقة والتربية والصداقة والحبّ.
* هذا الاختبار يحوّل “القلب الحجريّ” إلى “قلب لحميّ”
فإذا اختبر المرء هذا الحب فعلاً (مما يتطلب أن ينفتح إليه في العمق وأن لا تلهيه عنه هموم الحياة ومتعها ولهوها وشجونها)، إذا اختبره فعلاً، فلا بدّ لهذا الحبّ أن يغيّر قلبه (و”القلب” هنا ليس مجرد العاطفة، إنما هو، بالمعنى الكتابيّ والآبائيّ، مركز الكيان)، فيحوّله من “قلب حجريّ” إلى “قلب لحميّ” (حزقيال 36: 26)، أي إلى قلب إنسانيّ فعلاً، إلى قلب محبّ.
ما يحصل عند ذاك هو أن حبّ الله الذي تجلّى لنا في يسوع المسيح ينتقل إلينا كما ينتقل اللهب من مشعل إلى مشعل:
“لقد جئت لألقي نارًا على الأرض…”
(لوقا 12: 49)
عندئذ نتحول إلى يسوع، نتماهاه، نحيا حياته ونحبّ بحبه، وكأن قلبه هو الذي يخفق في صدرنا:
“لست أنا أحيا بل المسيح يحيا فيّ”
(غلاطية 2: 20)
عند ذاك تصبح رؤيتنا رؤية الله نفسها، وقلبنا قلبه، ولا بدّ أن ينبع من ذلك التحوّل الداخليّ سلوك شبيه بسلوكه.
محبة الأعداء، إذ ذاك، إنما هي النتيجة الطبيعية لهذا الانقلاب الصميم، إذ لا يسعنا، بعد ذلك، أن نرى الناس، أيًا كانوا، إلا كما يراهم الله، ولا يمكننا أن نعاملهم إلا كما يعاملهم هو (كما عاملهم يسوع الذي استمد من إلفته العميقة مع أبيه ذلك الموقف الذي عبّر عنه عندما هتف على الصليب: “يا أبتِ اغفر لهم، لأنهم لا يدركون ما يفعلون” (لوقا 23: 34):
“أحبوا أعداءَكم (…) فتكونوا بني أبيكم الذي في السماوات، لأنه يطلع شمسه على الأشرار والأخيار، وينزل غيثه على الأبرار والفجار”.
(متى 5: 44 –45)
“أحبوا أعداءَكم (…) تكونوا بني العليّ، فإنه هو منعم على غير الشاكرين وعلى الأشرار. فكونوا رحماء كما أن أباكم رحيم.”
(لوقا 6: 35 –36)
ولا بدّ أن ندرك هذه الكلمات على حقيقتها وفقًا لسياق الإنجيل كله. فلا نتصورنَ إننا، إذا حزمنا الأمر على محبة الأعداء، نبلغ نتيجة ذلك البنوة لله، وكأن الفعل يسبق الوجود، بل إننا، إذا عشنا هذه البنوة على حقيقتها، فلا بدّ من إثباتها وتأكيد حقيقتها بإقدامنا على محبة الأعداء التي بها نعبّر عن أن قلوبنا أصبحت بالفعل مشابهة لقلب العليّ، وإننا إذًا بالفعل أبناؤه.

* هذا التحوّل يتممه الروح القدس فينا
هذا التحول إلى المسيح وإلى حبه ليس بالعملية النفسية وحسب، أي انه ليس مجرد تماه بصورة للمسيح ترتسم في نفسيتنا. فهو أعمق من ذلك، انه تحوّل كيانيّ. ذلك أن روح المسيح، الروح القدس الذي اتخذ من إنسانية المسيح هيكلاً له، ينتقل إلينا بدورنا فيحولنا في الأعماق على مقدار انفتاحنا إليه وانقيادنا لإلهاماته. فهو الذي يغيّر قلوبنا ويوقظ فيها محبة هي صورة للمحبة التي يحبنا الله بها وامتداد لها:
“… لأن محبة الله (أي: المحبة التي يحبنا الله بها: ك.ب.) أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي وهب لنا”.
(روميه 5: 5)

هذا الروح نتقبله بالمعمودية والميرون فيصوّر المسيح في كياننا يومًا بعد يوم كما صوّره في أحشاء مريم عند التجسّد. وهو الذي نناله في كل مناولة إذ يحل على القرابين فيحوّلها إلى جسد المسيح ودمه، أي إلى شخصه الحيّ نتّحد به فيحولنا إليه ويجعلنا على شاكلته قربان حب لحياة العالم. هذا الروح نتقبله أيضًا عبر معاشرتنا لكلمة الله، إذا فتحنا لها أذهاننا وقلوبنا. وهو الذي يقبل إلينا في الصلاة، جماعية كانت أو فردية، ليتورجية كانت أو عفوية، إذا كانت هذه الصلاة فعلاً مناجاة لله ومواجهة لحضوره المحيي. وهو الذي يأتي إلينا عبر كل انفتاح محبّ على الآخر، أي عبر ممارستنا لما كان يسميه الذهبي الفم “سر الأخ” ويعتبره المكمل الضروري لـ”سر المذبح”.

ج- هذا التحوّل مسيرة طويلة لا تخلو من مشقة
هذا التحول الذي يرافق ولادة الحياة الجديدة فينا لا يتم مرة واحدة وينتهي الأمر. ليس هو بالمفعول السحري. فالله لا يعمل فينا بدوننا، بدون مساهمتنا يومًا بعد يوم في بناء أنفسنا. صحيح أنه “إن لم يبنِ الرب البيت فباطلاً يتعب البناؤون”، كما يقول سفر المزامير. مع ذلك فلا بدّ من تعب البنائين، لأنهم “عاملون مع الله” (1 كورنثوس 3: 9)، مساهمون في ورشة التجدد والتحرير. من هنا في الإنجيل تلك الصور التي تعبر عن ضرورة مشاركة الإنسان في عمل الله: صور “عمال الكرم” و”فعله الحصاد” و”الوكيل الأمين” و”المتجرين بالوزنات”.
التحول مسيرة طويلة وشاقة. انه عملية تجاوز دائم للقديم إلى الجديد، لإنسان النزوات والمصالح إلى إنسان المحبة. ذلك هو صراع “الإنسان العتيق” و”الإنسان الجديد”:
“… قد خلعتم الإنسان القديم وخلعتم معه أعماله، ولبستم الإنسان الجديد، ذاك الذي يسير إلى المعرفة الحقيقية في تجدده على صورة خالقه.”
(كولسي 3: 9 و10)
هذا الصراع يدوم ما دمنا على قيد الحياة. انه المخاض الطويل الذي تتحقق عبره “صورة الله” فينا، فنتحول تدريجيًا إلى “مثاله”.

فلنعد، لتوضيح ذلك، إلى المثل الذي منه انطلقنا. فالإنسان الشهوانيّ الذي يكتشف الحبّ لا يتحرّر من شهوانيته من عشية إلى ضحاها. إذ لا بدّ له من أن يواجه رواسبها فيه، وقد تكون قوية، رسختها عادات متأصلة. ولا بدّ له أن يتصدّى للهجمات المعاكسة العنيفة التي قد تشنها عليه ميوله القديمة من حين إلى حين. ولكنه، إذا كان مطمئنًا إلى رؤيته الجديدة، مقتنعًا بها في الأعماق، إن كان لديه يقين أعمق من كل شك بأنه إنما اكتشف، باختباره الحب، الحياة الحقة والفرح الأصيل، فلا بدّ له أن ينعم، حتى في صميم الصراع وضراوته، بطمأنينة وثقة وسلام.
كذلك لا بدّ للمسيحي أن يجاهد لكي يثبّت فيه الاتجاه الجديد وينمّيه ويترجمه في مختلف مرافق الحياة ويحميه من ردّات الأهواء. هنا لا بدّ من صمود الإرادة وصلابتها وإقدامها على شقّ الطريق أمام الحياة الجديدة وإزالة العوائق من وجهها، علمًا بأن الأولوية تبقى هنا، لا للإرادة بل للحياة التي منها تستمدّ الإرادة زخمها واندفاعها.
فلنأخذ مثلاً “محبة الأعداء”. ليس المطلوب منا لأول وهلة أن نحيا هذه المحبة على صعيد المشاعر، أي أن نخلو حيالهم من كل كراهية ونفور. فالإنسان لا يستطيع أن يتحكّم بشكل مباشر بمشاعره، فهي خارجة إلى حدّ بعيد عن نطاق إرادته الواعية، ولذا فلا يسعه أن يعالجها إلا مواربة من خلال تحكّمه بأعماله. من هنا أن يسوع، في معرض توصيته بمحبة الأعداء، يركّز لا على المشاعر بل على الأفعال:
“أما أنتم السامعون، فاني أقول لكم: أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى من يبغضكم، باركوا لاعينكم، صلّوا لأجل الذين يفترون عليكم…”
(لوقا 6: 27 و28)

كذلك يقول الرسول بولس:
“… إن جاع عدوّك فاطعمه، وان عطش فاسقه…”
(روميه 12: 20)

هذه الأفعال هي في متناول إرادتنا. إنها تبرز إلى حيّز الوجود نتيجة لجهادنا، النابع بدوره من المواقف العميقة التي أنشأها فينا الإيمان. ولكن هذه الأفعال، إذا برزت هكذا إلى حيّز الواقع، فإن أثرها لا يقتصر على محيطنا ولكنه ينعكس علينا ليغيّرنا، ليلطّف ويهذّب ويضبط ويرقي مشاعرنا وميولنا. ذلك هو الاتجاه السلوكيّ الذي نراه باديًا في الفكر الحديث وفي العلاج النفسي المعاصر. إن إرادتي تبدع الأفعال، والأفعال بدورها تبدعني، تخلقني من جديد: “أن أصنع، وأن أصنع نفسي عبر صنعي هذا” (جان بول سارتر). إنما الإرادة هنا لا بدّ وأن تستند في مجهودها، كي لا يأتي هذا سطحيًا ومصطنعًا، إلى قناعة عميقة تستمد منها الإرادة زخمها والتزامها، ألا وهي القناعة بقيمة الحياة الجديدة التي وُلدت فينا، وجدواها وبهائها. إذ ذاك يهون كل جهاد وكل تخلّ كما يتبين من مثلَي الكنز المكتشَف في حقل واللؤلؤة الكثيرة الثمن (متى 13: 44 –46. راجع: كوستي بندلي: أمثال الملكوت، ص 116 – 121، منشورات النور، بيروت، 1983). هذه القناعة ينبغي لها، كي تكون فعّالة، أن تتعدى مستوى الذهن إلى مستوى الخبرة المعاشة. فالمسيحية خبرة وإلا كانت ضربًا من ضروب المستحيل.

2- الحياة الجديدة تنسجم مع توقنا الإنسانيّ الأصيل
ومما يرسّخ فينا هذه القناعة المعاشة، ادراكنا بأن الحياة الجديدة التي أطلقها فينا الايمان ليست مجالاً مضافًا إلى إنسانيتنا من الخارج، وكأنها ثوب قد يكون بهيًا ولكنه مجرّد ثوب، يغلّفنا دون أن يرتبط بكياننا في الصميم، بل انها منسجمة في العمق مع توقنا الإنساني الأصيل.
هنا لا بدّ من التخلّي عن وهم شائع، ألا وهو ان حقيقة الإنسان انما هي كامنة في أهوائه، في مطامعه وجشعه وأنانيته، في هوسه بالتملك والتسلط، في نزعته إلى اتخاذ الآخر مطية لشهواته ومصالحه والغاء وجوده الفريد. هذه النظرة يثبتها فينا المجتمع الأناني، التحاسدي، الاقتنائي، الفرداني، التنافسي، المبني على الرغبة المهووسة في التفوق والتسلط، الذي نحيا فيه، ذلك المجتمع الذي تعبّر عن مقاييسه أمثال سائرة مثل: “معك قرش بتساوي قرش”، “بعد حماري ما ينبت حشيش وبعدي ما حدن يعيش”، “إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب”، “الكذب ملح الرجال” الخ… وقد كتب المفكر المصري الكبير سلامه موسى بهذا الشأن:
“… اننا نعيش في مجتمع اقتنائي تحاسدي يجعل الأنانية فضيلة ويحملنا على المباراة واقتناء المال، ثم يشملنا هذا الروح فتعود الأنانية والرغبة في الخطف والاقتناء والحسد والحقد والبعد عن الحب والتعاون، كل هذا يعود كما لو كان هو الطبيعة البشرية الأصيلة”.
(سلامه موسى: فن الحب والحياة (1947)، ص 116، مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة الرابعة، 1978).
هذه النظرة التي تتعاون على تكوينها وترسيخها انحرافات النفس البشرية وانحرافات المجتمع، في علاقة جدلية بينهما، انما هي نظرة متشائمة جدًا إلى الإنسان، ولكنها، أكثر من ذلك، نظرة سطحية إليه، لأنها لا تتناول فيه إلا الأقنعة التي كثيرًا ما تحجب، للأسف، إنسانيته الأصيلة، ولأنها لا ترى فيه إلا الرغبات الجزئية التي كثيرًا ما تجنّ وتثور وتتضخم وتستأثر فتطمس رغبته العميقة، المحورية، بالتحرر والاكتمال والسعادة عبر الانفتاح والعطاء والمشاركة.
فإذا نظرنا إلى الأمور بهذا المنظار، وجدنا ان الوصايا الإنجيلية ليست بالحسم الغريب الذي يفرض على طبيعتنا اعتباطًا، إنما هي دعوة لنا كي نثوب إلى رشدنا، ونعي حاجتنا الحقيقية، ونعود إلى فطرتنا النقية السليمة، أي إلى صورة الله فينا، تلك التي تكوّن جوهر كياننا ولا تزال هي قلبه ومحوره وان كان كثيرًا ما يشوّهها ويحجبها “قناع أهوائنا” (طروبارية عيد ختان ربنا يسوع المسيح).
أ‌-مثل العفة الإنجيلية
فلنأخذ مثل العفة الإنجيلية. مَن يقرأ تحذير يسوع كما ورد في انجيل متى:
“من نظر إلى امرأة فاشتهاها زنى بها في قلبه”
(متى 5: 28)
قد يتصور ان هذا انما هو غاية القمع لطبيعة الإنسان الواقعية. في حين ان يسوع أراد فقط ان يخدر من طغيان الشهوة التي، اذا تمادت دون موجّه أو رادع، شوّهت العلاقة بين الرجل والمرأة وحوّلتها إلى نهم استهلاكي يلغي بالحقيقة وجود الآخر ويبقي على كل من الطرفين في عزلته ويحول دون أية مشاركة فعلية بينهما ويعطل بالتالي إمكانية ان يسعد أحدهما بالآخر. هذا ما نشهده، للأسف، في الحياة الزوجية نفسها، التي كثيرًا ما تسودها نظرة إلى المرأة تعتبرها مجرد أداة لقضاء الحاجة وبلوغ اللذة، نظرة تعكس نمط العلاقات السائدة في مجتمع استيلائي، فرداني، بحيث يتسرب هذا النمط اللاإنساني إلى علاقة الرجل بزوجته فيدمرهما كليهما ويعطّل سعادتهما. وقد كتب سلامه موسى بهذا الشأن:
“وأسوأ ما تعلمناه من هذا المجتمع الاناني التحاسدي الاقتنائي الذي نعيش فيه، اننا ننظر إلى المرأة جنسيًا بدلاً من ان ننظر اليها إنسانيًا. فهي امرأة فقط وليست إنسانا، أي اننا نقتنيها كي تخدم ملذاتنا وتغسل أولادنا، فهي ليست الإنسان المتعاون الصديق الزميل الذي نرافقه ونصادقه، ولذلك كثيرًا ما تستحيل البيوت إلى مطاعم أو فنادق للأكل أو النوم فقط. وهذا المنظر يوهم الكسب للرجل، ولكنه في صميمه يعود عليه بالخسارة أيضًا حتى من ناحية اللذة الجنسية، اذ هي في هذا النظام تتقلص إلى الخطف والغصب، تجري وكأنها صراع تشنّجي، أو كأنها طرب جنوني، يغمر الجسم في عجل ثم ينطفئ فجأة.
(…)
(…) نحن نفسد (…) الغريزة بعادات المجتمع الانفرادي القائم على الخطف والخوف والنهب والحسد والاغتصاب. فنحن لا نتعاون في اللذة الجنسية بل نتخاطف في طرب جنوني وصرعٍ وقتي، سرعان ما نفقدهما ونعود إلى ما يقارب اليأس والجمود والنفور”.
(سلامه موسى: الرجل والمرأة والزواج، ص 117 و119، في: سلامه موسى: فن الحب والحياة، مرجع مذكور، ص 116 –121).
ولكن العلاقة الشهوانية بالمرأة تنعكس من جهتها على العلاقات الاجتماعية برمتها فتساهم في إفسادها. والتفاعل قائم بهذا الصدد بين العاملين الفردي والاجتماعي.
ما يقصده يسوع انما هو بالتالي تحرير طاقة الحب في الإنسان، تلك الطاقة التي لا إنسانية له بدونها، من تحكّم الشهوة الذي يقيدها ويعطّل انطلاقتها. انه لا يرمي إلى إخماد الشهوة – وان كان هو وعدد من أتباعه جيلاً بعد جيل قد اختاروا خط تحويل الشهوة عن مجراها الغريزي وتوظيف طاقتها كليًا في مشروع حب كبير – انما يرمي إلى إدراجها في سياق أوسع وأرحب يعطيها نصابها الحقيقي جاعلاً منها حافزًا ووقودًا للقاء أبعد منها وأعمق. يسوع يقصد بالتالي تحرير الإنسان – لا تكبيله بناموس جديد – ليعيده إلى ذاته، إلى أصالته، ويسمح له بأن يوظف طاقة الحب الكامنة فيه في علاقة حقيقية بامرأة يسعد بها رفيقة وشريكة، كما وفي علاقات أصيلة، منعشة وبناءة، مع سائر البشر، رجالاً كانوا أو نساءً، ومع الله نفسه. لا بل ان يسوع، بتعليمه هذا، بدل أن يناصب الجنس العداء كما قد يُظنّ، يهدف إلى تحرير الجنس نفسه عند الإنسان من طغيان الشهوة الذي لا يخدمه، بل على العكس يجهض مشروعه اللقائي، ذلك المشروع الذي هو فاشل لا محالة إن لم تغلَّف الشهوة بالحنان.

ب‌-مثل محبة الأعداء
من جهة أخرى، فان وصية محبة الأعداء غالبًا ما ينظر اليها على انها مطلب خلقي يُعترف بسموّه إنما يؤخذ عليه أنه دعوة للإنسان إلى التنكّر لواقع إنسانيته. والحقيقة على نقيض ذلك التأويل. فوصية “محبة الأعداء” تستجيب بالواقع لحاجات إنسانية بالغة الأهمية:
•منها حاجة الإنسان إلى تحقيق ملء إنسانيته
فالإنسان كائن لا يتحقق إلا بالمشاركة. انه على حدّ تعبير الكاتب الكبير انطوان دي سانتكزوبري – الذي لم يكن مؤمنًا – يكون بقدر ما يشارك:
“كيف السبيل لأكون، إن لم أشارك. أحتاج إلى المشاركة لأكون”.
(Antoine de Saint-Exupéry: Pilote de guerre (1942), p.188, Le livre de Poche, Paris, 1958)
من هنا ان كل حد لهذه المشاركة انما يحدّ من تحقيق إنسانية الإنسان، انه تمزيق لتلك “العقدة من العلاقات” التي يتكوّن منها الإنسان، حسب تعبير الكاتب المذكور (المرجع نفسه، ص 172)، لتلك “الشبكة من الروابط التي تجعله يصير “إنسانا، كما يحدد كاتبنا المحبة (المرجع نفسه، ص 200). كل انغلاق دون الإنسان الآخر، ولو كان إنسانا واحدًا، انما هو انتقاص لإنسانيتي وجرح وتدمير ألحقهما بها. انني برفضي الآخر بحجة اختلافه عني، أتناسى ان هذا الاختلاف، بدل أن يؤذيني، يغنيني (المرجع نفسه، ص 220). بعبارة أخرى، انني أنتحر معنويًا بإقصائي الآخر عن حياتي. هذا هو “القتل الانتحاري” الذي يتحدث عنه المفكر المسيحي المعاصر موريس بيلّليه.
(Maurice Bellet: Le Dieu pervers, Desclée de Brouwer, Paris, 1979).

•ومنها حاجته إلى المحافظة على صحته النفسية
فالمشتغلون في حقل علم النفس، لا بل كل إنسان يتمتع بالقدرة على الملاحظة، يرون بأن الحقد يدمّر الإنسان على الصعيد النفسي اذ ينشىء لديه توترًا وتأزمًا يسممان حياته، لا بل ينعكسان على وظائفه الجسدية فيشيعان فيها الاضطراب، كما انهما يسببان له اضطرابًا وفشلاً في حياته الاجتماعية. من هنا ان تخطّي الحقد إلى المحبة – أو ما يسميه الدكتور علي زيعور، استاذ علم النفس المرضي في الجامعة اللبنانية في بيروت، “التراحم” – انما هو طريق لاستعادة الصفاء والسلام وما يرافقهما من صحة نفسية وجسدية ونجاح في العلاقات الاجتماعية.
يقول د. علي زيعور:
“بالبغض يعمل الإنسان عكس صحته النفسية واتزانه الانفعالي.”
ويذكر ما للبغض من انعكاسات نفسية سلبية كالتوتر الداخليّ والشعور بالانقباض وإضعاف الحسّ النقدي والمحاكمة. ويضيف ان الكراهية تقصّر العمر وان تأثيرها في الأعضاء شديد الوضوح، وان لها تأثيرًا سيئًا على القلب وانها ترفع ضغط الدم. ويعطي هذا المؤلف أمثلة حية توضح ما للبغض من أثر رديء لا على النفس فقط بل على الجسد ايضًا. يقول:
“نعود الآن لذكر حادثة توضح لنا كم ان الكراهية سيئة التأثير، ومؤلمة لصاحبها بالذات. يعطي التحليل النفسي حادثة لشخص كان يشعر بصداع أليم أحيانًا، وأحيانًا بألم في الصدر. لقد اتضح للمحلل النفسي أن السبب يكمن في بغض شديد لزميل له في الوظيفة. فهو لا يستطيع التغلب على زميله المستبدّ، ولا يستطيع من جهة أخرى أن يبتعد عنه بحكم العمل والجوار. كان ذلك الحقد المكتوم اذن سبب الآلام النفسية والعضوية ايضًا.

والأمثلة كثيرة. فالتحليل النفسيّ يبيّن ان حالات كثيرة من الصداع سببها بغض أو انفعال ما مكتوم (…) هل نذكّر (…) بقصة شهيرة لذلك الموظف الذي كان يمرض أول كل شهر؟ لقد اتضح انه يمرض كي يتجنب دون وعي ولا قصد رؤية الموظف الذي يسلمه معاشه، وكان هذا مكروهًا لديه”.
ويخلص الكاتب إلى القول:
“… الثابت هو كون البغض يؤدي دائمًا في العلاقات الإنسانية إلى الفشل والسقوط (…) لذلك لا بدّ من تحويله. لا بدّ من الانتقال إلى نقيضه وهو المحبة”.
(راجع: د. علي زيعور: من العوامل المخرّبة في الشخصية. الوان البغض وانعدام التراحم، ص 139 – 141. في: د. علي زيعور: أحاديث نفسانية اجتماعية ومبسطات في التحليل النفسي والصحة العقلية، ص 139 – 142، دار الطليعة، بيروت، حزيران 1986).
أما دايل كارنيجي، وهو أميركي ألّف كتبًا واسعة الانتشار ضمّنها خبرته الغنية في العلاقات الإنسانية وتوجيهها، فقد بيّن الحكمة البشرية العميقة الكامنة في وصية يسوع بمحبة الأعداء. قال:
“اننا حين نكره أعداءنا ونكنّ لهم الحقد، بهذا نكون في عذاب مرير نعيشه نحن من جراء مقتنا لهم (…). ان مقتنا لهم (…) يسبب لنا مرارة في حياتنا تنغِّصُ حياتنا وتقلبها، وتجعل أيامنا وليالينا في جحيم لا يطاق.
(…)
ان الحقد الذي يملأ قلوب الحاقدين لا يجعلهم يستمتعون بلقمة يأكلونها، وبهذا الخصوص يقول الكتاب المقدس: “لقمة يابسة ومعها سلام خير من بيت ملآن ذبائح مع خصام” (أمثال سليمان17: 1).
(دايل كارنيجي: دع القلق وابدأ الحياة، ص 131 و133، المكتبة الثقافية، بيروت، د. ت.).
ويدلي الكاتب بهذه الشهادة الشخصية:
“لقد ترعرعت في عائلة جميع أفرادها يتلون بعض الآيات المقدسة من الكتاب في كل يوم، ثم يركعون لله خاشعين شاكرين (…)، ولا يزال يرنّ في أذني صوت أبي في ذلك البيت الريفي في ولاية ميسوري، وهو يردد قول السيد المسيح: “أحبوا اعداءكم وباركوا لاعنيكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون اليكم، ويضطهدونكم”. وقد حاول أبي أن يعيش مطبّقًا هذا القول المأثور الذي قاله السيد المسيح في الكتاب المقدس، فحصد من ذلك طمأنينة وراحة وسلامة طالما بحث عنها ملوك على رؤوسهم التيجان.”
(المرجع نفسه، ص 125)
* ومنها أخيرًا حاجة الإنسان إلى أن يكون حرًا، خلاّقًا في علاقاته الاجتماعية.
أي أن يتحكّم في أوضاعه ويطوّرها نحو الأفضل ويفتح صفحة جديدة في سجلّ تعامله مع الناس عوض أن ينقاد إلى الأوضاع الراهنة ويكون سجين حاضره وماضيه.

ان من يستجيب بالعداوة للعداوة يكون كمن يصبّ زيتًا على النار. انه يخلّد العداوة لا بل يؤجّجها في دوامة من الفعل وردّ الفعل. أما مَن استجاب للعداوة بالمحبة، فهذا قد تحرر من الدوامة وأفلت من رتابتها الجهنمية، لا بل انه يفسح المجال امام الطرف الآخر للتحرر منها بدوره. انه يعطيه فرصة للنجاة من شره، يمنحه حظًّا بالتجدّد والانبعاث. ان سلوكه الجديد، الخلاّق، المتحرر من وزر الماضي قد يكون منطلقًا لإزالة العداوة، لا من نفسه وحسب، بل من نفس الخصم أيضّا، ولتحوّل هذا من عدوّ إلى صديق.

بهذا المعنى، نجد في القرآن – مع انه يحلّل مقابلة الشر بشر موازٍ له، تساهلاً مع الضعف البشري – وصية رائعة بتجاوز الشر بالخير:
“ولا تستوي الحسنة ولا السيئة. ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم. وما يُلقّاها إلا الذين صبروا وما يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم.” (سورة “فصّلت”، 41: 34-35)

بهذا المعنى أيضًا أوصى الرسول بولس مسيحيّي روما قائلاً:
“لا تنغلب للشر، بل اغلب الشر بالخير”.
(روميه 12: 21)
وقد أوضح ذلك بقوله:
“لا تنتقموا لانفسكم أيها الأحباء (…) بل، ان جاع عدوك فاطعمه، وان عطش فاسقه، فإنك بفعلك هذا تركم على رأسه جمر نار”.
(روميه 12: 19 و20)
“جمر النار” هذا انما هو إشارة رمزية إلى الحضور الإلهي الذي يجدد الإنسان ويحييه. وكأن الرسول يقول: ان من حرَّرته الحياة الجديدة من وزر ماضيه، انما هو قادر، بسلوكه المستغرب، أن يحرر عدوه نفسه وينقل اليه قبسًا من النار الإلهية التي حولته هو إلى إنسان آخر. انه قادر أن ينقل إلى الخصم طاقة القيامة المتأججة فيه.

ج- مثل تناسي النفس في سبيل الآخرين.

وبشكل أشمل، فإن وصية المسيح: “من أراد أن يستبقي حياته يفقدها، ومن فقد حياته يخلّصها.” (لوقا 17: 33)

قد تبدو وكأنها تنكّر كامل لطبيعة الإنسان، وكأنها تطالبه بأن يتجاهل رغبته الأساسية في البقاء والاستمرار وإثراء حياته من كل الوجوه، سعيًا وراء تعويض مبهم يعطى له بعد الموت. في حين ان الوصية المذكورة، التي تختصر الإنجيل كله، هي على نقيض ذلك تمامًا إن هي فهمت على حقيقتها. فالمطلوب أساسًا ليس التضحية بالحياة هنا في سبيل حياة بعد الموت، وبالفرح هنا في سبيل فرح بعد الموت، انما هو استبدال الحياة الزائفة، منذ الآن، بالحياة الحقة، وشبه الفرح، منذ الآن، بالفرح الاصيل. أما ما يجري بعد الموت، فلا يتعدى كونه كشفًا لصحة هذا الخيار، بعد أن تسقط الأقنعة ويتبدّد السراب في مواجهة نور الله، واكتمالاً يفوق الوصف لثماره المحيية.
ما كشفه لنا المسيح أساسًا، اذًا، في وصيته المذكوره أعلاه، انما هو أن الإنسان لا يحيا فعلاً، بكل ما لكلمة “حياة” من معنى، الا اذا عاش للآخرين ونسي نفسه من أجلهم. وهذه حقيقة اختبارية تتضح لكل من شاء أن يلقي على الوجود نظرة تتعدى السطحية وتذهب إلى أبعد من القشور. ذلك أن مَن انهمك بذاته، بمصالحه وملذاته ومطامعه، هذا، ولو ملك الدنيا، يعيش في فراغ وخواء. يتخبط في القلق والعزلة واللامعنى. لذا فإن حياته تشبه الموت، أيًا كان بريقها الظاهريّ وضجيجها:”ماذا ينفع الإنسان لو ربح الدنيا كلها وخسر حياته؟” (مرقس 8: 36)

أما الذي يتخطى اهتمامه بنفسه ليهتم بالآخرين ويصغي إليهم ويتبنّى احتياجاتهم ويسعى إلى إسعادهم، فهذا يجد منذ الآن الحياة الزاخرة الغنية، هذا يتجاوز العزلة إلى علاقات بالآخرين صميمة محيية، هذا يرتدّ عليه الفرح الذي يمنحه للآخرين فيملؤه بهجة وسرورًا، هذا يجد لحياته جدوى ومعنى فينجو من القلق والضياع.
هذا ما بينّه دايل كارنيجي في كتابه “دع القلق وابدأ الحياة”. وقد قدم أمثلة عن السعادة التي يجدها المرء في تجاوز نفسه باتجاه الآخر، كمثل تلك الفتاة التي كانت تعاني الأمرّين من جراء فقر أسرتها وما تسبّب به هذا الفقر من عجزها عن ارتداء ثياب لائقة شأن سائر الفتيات، فكانت تجهش بالبكاء كل ليلة اذا آوت إلى فراشها. إلى أن فطنت ذات يوم إلى حلّ، ألا وهو أن تبادر كل ما صادفت إنسانا ما إلى سؤاله عن أحواله وأفكاره واهتماماته كي تلهيه عن النظر اليها وإلى ثيابها. ولكن سرعان ما أُخذت بما كانت تسمعه وأصبحت تبدي الاهتمام الحقيقي العميق بشؤون من يعيشون حولها، فنسيت من جراء ذلك بؤسها وعُرفت بـ “المستمعة الطيبة” واستقطبت محبة الناس مما أدخل السرور إلى قلبها. (راجع: دايل كارنيجي: دع القلق وابدأ الحياة، ص 185).
ويخلص الكاتب إلى هذه التوصية:
“… إذا أردت طرد القلق من بين جوارحك، ولكي تكسب الطمأنينة والسعادة فاتبع هذه النصيحة: تناسَ نفسك واجعل اهتمامك ينصبّ على الآخرين، واعمل كل يوم عملاً طيبًا يوجد البهجة على وجه أخيك الإنسان”. (المرجع المذكور، ص 186)

ويستشهد المؤلف، في معرض تبيانه للقيمة الإنسانية الشاملة التي تتخذها وصية المسيح المذكورة آنفاً، برأي مفكّر بريطانيّ ملحد، فيقول:
” … الأستاذ “هوسمان” المدرّس في جامعة كامبريدج (…) ألقى محاضرة في جامعة كامبريدج وعنوانها: “الشعر، اسمه وطبيعته”. وكان ذلك في عام 1939. قال فيها: “لعل من أروع الحقائق التي قيلت على لسان إنسان هي تلك التي انطوى عليها قول السيد المسيح: “مَن وجد حياته يضيعها، ومن أضاعها من أجلي وجدها”. أجل لقد سمعنا كثيرًا من أقوال الناس، كهذا القول، ولكننا لم نسمعها عن لسان ملحد سوى هوسمان الملحد، المتشائم، والذي فكر في الانتحار عدة مرات. بالرغم من هذا فقد شعر بأن الرجل الذي يحصر تفكيره في نفسه لن ينال من الحياة ذرة من السعادة. أما الرجل الذي يضيع وقته في معاونة الآخرين فهو الذي سيسعد”. (المرجع نفسه، ص 185 – 186)

وربّ معترض يقول أن المسيح لا يوصي بتناسي النفس وحسب، بل بالذهاب في هذا التناسي إلى حدّ التضحية بالحياة عند المقتضى. فكيف، والحال هذه، “يجد” الإنسان حياته – الا في عالم غيبيّ – إذا أقدم على إفنائها. وعليه نجيب أن الحياة ليست في عدد الأيام بقدر ما هي في المعنى الذي تتحلى به والذي يعطيها وحده كثافتها وجدواها. فإذا كان معنى الحياة كامنًا في الحبّ والمشاركة، فان الحياة تبلغ ذروة معناها، وبالتالي ذروة كثافتها، اذا أقدم الإنسان على التضحية بها حبًّا. وما المجد الذي يلاقيه الشهيد بعد موته سوى تأكيد لهذه الحقيقة وتتويج لها.

الخلاصة
إن طرحنا هذا لا يقلّل من أهمية الجهاد في الحياة المسيحية، ذلك الجهاد، المرير أحيانًا، الذي يسميه الإنجيل “صليبًا”. إنما يضع هذا الجهاد في نصابه الصحيح، في مناخه الإنجيلي الأصيل، مناخ الحياة الجديدة التي يفجّرها الإيمان فينا والتي لا بدّ لها، كما رأينا، أن تشقّ طريقها عبر كثافة ومقاومات الإنسان العتيق الذي يأبى الدخول في سياق التحول المحيي. تلك الحياة الجديدة إنما هي استجابة لتوقنا الإنساني الأصيل، إنها الحياة الإنسانية الحقة يتحقق ظفرها فينا عبر نضال (ألم يقل فيكتور هيغو: “الأحياء فعلاً إنما هم المناضلون؟). فإذا أدركنا ذلك بملء الكيان، خضنا الجهاد لا بنفسية المغلوبين على أمرهم، الرازحين تحت عبء فرائض تعجيزية يلقيها على كواهلهم، باسم المحبة، اله غريب الأطوار، ساديّ المنحى، بل بروحية السائرين بنشاط على درب الحياة، مواجهين وعورتها بثقة لأنهم قد شاهدوا فجر الحياة ينبلج في نفوسهم، فأخذوا يسعون إلى اكتمالها فيهم، يحدوهم ذلك الفرح الذي هو ألف الإنجيل وياؤه (أليس الإنجيل، تحديدًا، البشرى؟). وتغني في قلوبهم كلمات يسوع:
“تعالوا إليَّ يا جميع المتعَبين وثقيلي الأحمال وأنا أريحكم (…) لأن نيري ليّن وحملي خفيف.” (متى 11: 28 و30)

“النور”، العدد 8، 1987

ك.ب.