" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
تزيين الهياكل وإطعام الجياع

“ألا ترى أن صرف الكثير من المال على ترميم الكنائس هو موقف غير إيمانيّ وخاصة عندما نعرف أن هنالك الآن الجياع في أفريقيا؟”

أولاً: الأولوية إنّما هي للإنسان:
1-فقد قال يوحنا الذهبي الفم: “لا تزيّن هياكل الله إذا كان لإهمال أخيك في الشدّة. هذا الهيكل أعظم جلالاً من ذاك”.

2- المسيح هو هيكل الله الجديد أي مكان حضور الله في الأرض: “أجاب يسوع، وقال لهم: “أنقضوا هذا الهيكل، وأنا أقيمه في ثلاثة أيّام”. فقال اليهود: “في ست وأربعين سنة بُني هذا الهيكل، وأنت، في ثلاثة أيّام، تقيمه!” أمّا هو فكان يتكلّم على هيكل جسده…” (يوحنا 2: 19-21).

3- وبذلك اصبح البشر، الذين وحّد المسيح ذاته بهم، والمدعوون أن يصبحوا جسده، أي امتداده في التاريخ، أصبحوا بدورهم هيكل الله في الأرض:
* “لأن هيكل الله مقدّس، وهذا الهيكل هو أنتم” (1 كورنثوس 3: 17).
* “فإننا نحن هيكل الله الحيّ، على حسب ما قال الله: “إني سأسكن فيهم…” (2 كورنثوس 6: 16).

4- هذا ينطبق بنوع أخصّ على كلّ معذَّبي الأرض، الذين كانوا محطّ اهتمام المسيح الرئيسيّ في حياته الأرضيّة والذين أقام بينه وبينهم مطابقة خاصّة: “لأني جعتُ فأطعمتموني، وعطشتُ فسقيتموني، كنتُ غريباً فآويتموني، وعرياناً فكسوتموني، وكنت مريضًا فعدتموني، ومحبوسًا فأتيتم إليّ (…) الحقّ أقول لكم، إنّ كل ما صنعتموه إلى واحد من أخوتي هؤلاء، إلى واحد من الصغار، فإليّ قد صنعتموه (…) إنّ كلّ ما لم تصنعوه إلى أحد هؤُلاء الصغار، فإليّ أيضاً لم تصنعوه” (متى 25: 36 و40 و45).

5- الكنيسة خادمة كسيّدها. هذا هو مبّرر وجودها. إنّها موجودة لا من أجل ذاتها، بل من أجل الناس، من أجل خلاصهم وتحريرهم، كما أن وجود يسوع على الأرض كان، بكليته، من أجل الآخرين. كل انطواء للكنيسة على ذاتها للتباهي بممتلكاتها وأبنيتها وغناها، إنّما يتمّ على حساب رسالة التحرير والخلاص هذه، وبالتالي يعطّل بناء ملكوت الله الذي وُجِدَتْ الكنيسة لتكون علامته وباكورته في الأرض، ذلك الملكوت الذي أوضح يسوع أن من أهمّ علاماته “أن الفقراء يُبشَّرون” (متى 11: 5)، أي أن البشرى تُحمل اليهم، بشرى تحرّرهم الفعليّ والفوريّ من البؤس: “…لم يكن فيهم محتاج، بل كان كل من يملك الحقول أو البيوت يبيعها، ويأتي بثمن المبيع فيلقيه عند أقدام الرسل، فيعطى كل منهم على قدر احتياجه” (أعمال الرسل 4: 32-35).

6- من هنا إن غنى المؤسسة الكنسية (الكنائس، الأديار…) كان ولا يزال عثرة كبيرة في تاريخ البشرية وقد تسبب- ولا يزال- في تفشّي الإلحاد. والواقع أن هذا الإلحاد نتيجة منطقية لغياب الله الفعلي عن هذا الوجه الذي تقدمه المؤسسة الكنسية- والدينية بشكل عام- للناس، والذي قد يحجب عنهم ما عداه .

7- هذا الغياب المأساوي- غياب الله عن وجه من وجوه مؤسّسة وُجدت في الأصل لتكشفه للناس- عبّر عنه طاغور بمقطع شعري رائع أورد فيه ما يلي:
“قال الخادم للملك:
ما للقدّيس “ناروتام”، مولاي، لا يتنازل أبداً، ويدخل الهيكل الملكي؟ إنّه يسبّح الله في ظلّ الأشجار، على الطريق الرحب، والهيكل خلوٌ من العبّاد، والناس يحتشدون حوله احتشاد النمل حول اللوتس الأبيض، مهملين جرّة العسل الذهبية.
إغتاظ الملك لذلك، فمضى إلى حيث كان ناروتام جالساً على العُشب، وسألُه: لماذا، أبتِ، تترك هيكلي ذا القباب الذهبية، وتجلس على التراب في العراء، لتعظ حبّ الله؟
فأجاب ناروتام: لأنّ الله ليس في هيكلك.
تجهّم وجه الملك وقال:
أتعلم أن عشرين مليونًا من الذهب قد أنفقت في بناء هذه الآية من الفن، وأن طقوس تكريسها لله كلّفت أموالاً طائلة؟
فأجاب ناروتام:
“نعم، أعلم ذلك! وهذا كان سنةَ احترق فيها بيوت الوفٍ من شعبك، وقد وقفوا دون جدوى يسألون العون على بابك.
“وقد قال الله: هذا المخلوق الحقير لا يستطيع إيواء إخوته، ويريد بناء بيتٍ لي!
“وأقام الله بين من لا مأوى لهم، تحت أشجار الطريق.
وخلا هذا القباب الذهبيّ من كل شيء إلاّ من بخار الكبرياء الحارّ”.
صاح به الملك غاضبًا: أترك بلادي!
فأجاب القدّيس بهدوء: أجل، إنفِني حيث نفيتَ إلهيْ” .

ثانياً: لكن دون إهمال جمال الهياكل:

1- ذلك أنّ الحبّ لا يعبّر عنه بخدمة حاجات الآخر وحسب على أهمية هذه الخدمة، بل بمجّانيّة العطاء، أي بعطاء لا “يفيد” الآخر، لا “ينفعه” بالمعنى الشائع لهذه العبارة، ولكنّه يبغي تكريم الآخر وإدخال البهجة إلى قلبه. إنّه عطاء لا يُقصد به سوى كشف الحبّ ليس إلاّ، لذا فإنّه لا يدخل في حسابات الفائدة والضرورة، ولكنّه مجرّد تعبير عن القيمة التي للآخر في نظرنا. قد يُسرّ الصديق أو المحبوب إذا قدمنا له ما يحتاج اليه، ولكن سروره قد يكون أعظم- وسرورنا نحن معه- إذا قدّمنا له كماليات يشعر عبرها أننا نتخطّى مجرّد حاجاته لنهتمّ به هو. الحبّ يحتاج إلى شيء من الترف. من هنا مثلاً التعبير عن الحبّ بتقديم الأزهار التي سرعان ما تفنى، والتي لا “تفيد” بشيء. قد تُسرّ زوجة إذا قدّم لها زوجها أداة منزليّة تلبي حاجتها وتخفّف من تعبها، ولكنّها قد تكون أكثر بهجة إذا قدّم لها، عوضًا عن ذلك، حلية ذهبيّة تلمس عبرها قيمتها في نظره وتتحسّس من خلالها لمعاني الإخلاص الذي يعبّر عنها الذهب، كونه لا يتصدئ مع الزمن بل يحتفظ بلمعانه وبريقه.

2- هذه المجّانية رحّب بها يسوع في الإنجيل:
أ‌- فلنراجع بهذا الصدد حادثة المرأة التي صبّت طيبًا غالي الثمن على رأس يسوع، كما يرويها متى (26: 6-13)، وإستنكار التلاميذ لذلك الفعل: “لماذا هذا الإسراف؟ فقد كان يمكن بيعه غالياً، ويُتصدَّق بثمنه على الفقراء” (متى 26: 8 و9)، وامتداح يسوع لهذا العمل، في حين أنه، في الفصل السابق (متى 25)، كان قد دعا بإلحاح إلى خدمة حاجات المحتاجين إلى الطعام والشراب والكساء والمأوى… وقال إنها بمثابة خدمة مقدّمة اليه شخصياً.

ب‌- وفي الرواية التي يعطيها لوقا عن هذه الحادثة (راجع لوقا 7: 36-50)، نرى يسوع يقارن بين ما قدّمه له الفريسيّ الذي دعاه إلى مائدته، إذ اكتفى بإشباع حاجته إلى الطعام (والفريسيّون إنّما هم أهل الحسابات، يقفون عندها ولا يتجاوزونها إلى مجّانية الأخذ والعطاء)، وبين ما قدّمته له المرأة من كماليّات عبرت بها عن وفرة محبّتها:
“أترى هذه المرأة؟ إني دخلت بيتك فما سكبتَ على قدميّ ماءً، وأما هي فبالدموع بلّت قَدميّ وبشعرها مسحتهما. أنت ما قبّلتني قبلة، وأما هي فلم تكفّ مذ دخلت عن تقبيل قدميّ. أنتَ ما دهنتَ رأسي بزيت، أما هي فبالطيب دهنت قدميّ” (لوقا 7: 44-46).

ج- ولنراجع أيضاً المقارنة بين سلوك الأختين مرتا ومريم، التي نجدها في لوقا 10: 38-42. هنا نرى مرتا تخدم حاجات يسوع بإعدادها له الطعام، في حين أن أختها مريم تكتفي بأن تجلس عند أقدامه لتستمع إلى كلامه. ونرى أن يسوع، الذي كان يحبّ مرتا (راجع يوحنا 11: 5) ويقدّرها، يعطي هنا الأفضليّة لمريم: “لقد اختارت مريم النصيب الأفضل ولن يُنزع منها” (لوقا 10: 42).

د- مريم هذه هي التي، في رواية يوحنا (يوحنا 12: 1-9)، “تناولت رطل طيب من النردين الخالص غالي الثمن، ودهنت قدمي يسوع ثم مسحتهما بشعرها. فعبق البيت بالطيب” (يوحنا 12: 3). وقد امتدح يسوع عملها ودافع عنه. لقد كانت مرتا رائعة بإيمانها، وهذا ما تجلّى في حادثة إقامة العازر من بين الأموات حيث تفوق إيمان مرتا على إيمان مريم، ولكنّها كانت “عمليّة”، “واقعيّة”، فوق اللزوم. كان ينقصها هذا القدر من “الجنون”، الذي لا بدّ منه ليكتمل الحبّ. أما مريم، فكانت أكثر انفتاحًا إلى مجّانية الحبّ، وبالتالي أكثر تحسّسًا للغة الرموز التي هي لغته. فالمجّانية، لأنّها تتخطّى الحاجات البحتة، تفتح باب الرموز. هكذا نرى مريم تنشّف بشعرها العطر الذي سكبته على قدمَي يسوع. وهذه قمّة العبثيّة في الظاهر، لأن مريم، بفعلها هذا، تزيل في الحال العطر الجزيل الثمن الذي قدّمته، وكأن التقدمة تذهب هكذا هدرًا. ولكنّها إنما كانت تعبّر بعملها هذا- كما فهمته امرأة أخرى، من مسيحيّات اليوم، علّقت على هذه الحادثة في كتابها “نساء الإنجيل”- عن شعورها بأن قدمَي يسوع أثمن من أن يستقر عليهما حتى هذا العطر البالغ الثمن نفسه، كما أن مسحها للعطر بشعرها كان معبّراً عن عمق الحبّ الذي دفعها إلى أن تجعل من ذاتها منشفة للمخلّص، متجاوبة بذلك مع حبّه هو الذي سوف يجعل منه، في العشاء الوداعيّ، طعامًا للتلاميذ .

3- ثم إن الإنسان بحاجة إلى الجمال لكي يرتفع به إلى الله ويتلاقى في العمق مع الآخرين. وقد أنشد كتاب المزامير: “يا ربّ لقد أحببتُ جمال بيتك…”. والفقراء هم أيضاً بحاجة إلى جمال بيت الله، لينتعشوا ويحيوا ويفرحوا ويروا في هذا البهاء صورة لملكوت الله المرتجى. إنّنا لا نقدّرهم حقّ قدرهم إذا اعتقدنا أنهم يحتاجون فقط إلى القوت والكساء والمأوى والدواء، مع شدّة حاجتهم إلى ذلك كلّه. فإنّه “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان” (متّى 4: 4)، وإن كان لا بدّ له من الخبز ليحيا. الإسان يحتاج إلى الكماليّات ليشعر بها بأنه إنسان بكل معنى الكلمة، أي كائن يتجاوز نطاق “الحاجة” الضيّق ليلج إلى رحاب “الرغبة” غير المحدودة. (من هنا إنّني أفهم في العمق أن يصرّ الفقراء في الميناء، بلدتي، على صنع “معمول” العيد، في موسم الفصح، في حين أنهم- كما يأخذ عليهم الكثيرون- يفتقدون ما هو أحوج من ذلك بكثير…).

خلاصة:
من أجل التوفيق بين هذين البعدين- المتناقضين في الظاهر- للمحبة الواحدة، علينا أن نتذكّر:
1- إن بناء الهياكل أو ترميمها أو تزيينها لا يمكن أن يتمّ، بشكل من الأشكال، على حساب مساعدة البائسين التي تبقى لها الأولوية. مطلوب من المؤمنين، بالتالي، سخاء مزدوج: نحو الفقير أولاًُ، نحو هياكل الله ثانياً:
“ماذا ينفع تزيين مائدة المسيح بأوان ذهبيّة إذا كان هو نفسه يموت جوعًا؟ فأشبعه أولاً حينما يكون جائعاً، وتنظر فيما بعد في أمر تجميل مائدته بالنوافل…” (يوحنا الذهبي الفم).

2- إن الإنفاق الكثير في سبيل هياكل الله لا يمكن إتخاذه قاعدة، إنّما ينبغي أن لا يتعدى كونه تعبيراً ظرفياً عن مجانية الحب، والاّ استحال إلى بذخ وتباهٍ، وغاب عنه، بالتالي، معنى الحب الذي وحده يبّرره. فتطييب يسوع بالعطر تمّ مرة واحدة، وكان ذلك بمثابة تطييب مسبق لجسده المعدّ للموت والذي لم تُتح فرصة تطييبه بعد الصلب: “فإنّها حفظت هذا الطيب ليوم دفني” (يوحنا 12: 7)، ولم يكن يسوع ليقبل بالطبع، وهو الذي لم يكن له “موضع يسند اليه رأسه” (متى 8: 20)، أن يُدْهَن بتواتر بالطيوب الثمينة.

3- ثم إن مجانية الحب يمكن أن يعبّر عنها بغير الإنفاق الكثير. المهمّ أن يكون العطاء صادراً من القلب. فزهرة واحدة قد تعبّر عن الحبّ أكثر من باقة من الأزهار الفاحشة الثمن. وإن هدية صغيرة مغلّفة بالحبّ قد تحمل إلى المهدى اليه فرحًا أكبر بكثير ممّا تعطيه الهدايا الفاخرة التي يغدقها بعض الوالدين على أولادهم ليعوّضوا عن غيابهم العاطفيّ في حياتهم.

المهمّ إذاً، عندما نبني أو نرمّم هياكل الله، أن يغلب الحبّ، في توجيه عملنا، على رغبة التباهي والظهور ومقارعة الآخرين.

22/10/1986
مجلة “النور”، العدد 9، 1986