" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
العمل مفدي بالتجسد

المعنى المسيحي للعمل: كلمة ألقيت سنة 1964 لمناسبة عيد العمّال

إن احتفلنا اليوم حركيًا بعيد العمل، فذلك لاِعتقادنا أن هذا العيد لا يكتسب ملء معانيه إلا بالمسيح الذي به وحده تتخذ الأشياء كلها معناها النهائي، العميق. لذا سنحاول أن نتأمل العمل في نور الرب الوضّاء.
تعلمنا الكلمة الإلهية أن العمل في تصميم الله كرامة عظمى وهبها الإنسان. فقد شاء الله أن يجعل الإنسان الذي خلقه حبًا، مساهمًا معه في سلطانه على الكائنات ومنحه العمل وسيلة لممارسة هذا السلطان إذ به ينظّم الخليقة ويجمّلها، ويطلق ويوجه الطاقات الكامنة فيها، وكأنه يكمِّل الخلق بالقوة والعقل اللذين أعطيهما من الخالق وكأنه يبث في الطبيعة شيئًا من صورة الله التي يحملها في ذاته.

ولكن تمرد الإنسان، ومحاولته الاكتفاء بذاته، ذاك الانحراف في الحرية البشرية الذي ندعوه الخطيئة الأصلية، أفسد تصميم الله فجر الوبال على الإنسان، الذي من أجل خيره وضع هذا التصميم. لقد أفسد سقوط الإنسان كل شيء ومما أفسده العمل. فمن جهة أصبح العمل شاقًا، أليمًا، بعد أن كان متعة وفرحًا:
"ملعونة الأرض بسببك حسكًا وشوكًا تنبت لك، بعرق جبينك تأكل خبزك".

ومن جهة أخرى، بسبب التفكك الذي أحدثه السقوط بين البشر، أصبح العمل، عوضًا عن أن يكون وسيلة للتقارب والتبادل والشركة بين البشر، أحد حقول النزاع بينهم. فأصبح بعض الناس يستثمرون عمل البعض الآخر، معتبرينه بضاعة تشترى بأبخس الأثمان، متناسين أن للعمل قيمة لا تقدَّر لأنه تعبير عن شخصية إنسانية هي على صورة الله.

ولكن صوت الله كان يدوّي عبر التاريخ البشري على لسان رجال الله القديسين مذكرًا بوجوب احترام الإنسان للإنسان أيًا كان وضعه الاجتماعي، منذرًا الذين يرتكبون الظلم، مهما علا شأنهم، بأشد العقوبات. لقد دوّى هذا الصوت في العهد القديم بفم الأنبياء كعاموص وإرميا مثلاً موبخا الجائرين، داعيًا بشدة ووعيد إلى العدل والإنصاف. فلنسمع إرميا مثلاً يقول: "ويل لمن يبني بيته بغير عدل وغرفه بغير حق ويستخدم قريبه بلا أجرة ولا يوفيه عن عمله" (22: 13).

وأيضًا: "هكذا قال الرب أجروا الحكم والعدل وأنقذوا المسلوب من يد الظالم ولا تعسفوا الغريب واليتيم والأرملة ولا تجوروا عليهم ولا تسفكوا الدم الزكي في هذا الموضع. فإنكم إن عملتم بهذا فملوك جالسون لداود على عرشه... وإن لم تسمعوا لهذا الكلام فبنفسي أقسمت يقول الرب إن هذا البيت يكون خرابًا".

وتعالى هذا النداء أيضًا في العهد الجديد حيث أعطي الفقير كرامة تفرض احترامه وانصافه: هذا ما نراه في الإنجيل وفي تعليم الرسل وفي كتابات آباء الكنيسة العظام كباسيليوس وغريغوريوس النيصصي والذهبي الفم، الذين كانوا بتعليمهم وأعمالهم أبطالاً، مناضلين عن حقوق الفقراء تجاه الطغاة المتجبرين والأغنياء المستأثرين.

هذا النداء المدوّي إلى تحقيق العدل والإنصاف والإخاء بين البشر، لم يرَ العالم له مثيلاً حتى في التيارات الاجتماعية المعاصرة التي منه استوحت نزعتها الإنسانية، لأنه يؤكد أن كل ظلم وجور يصيب الإنسان موجه في النهاية إلى الله نفسه.

ولكن العمل افتُدِي كما افتُدِيت الأشياء كلها بتجسد الكلمة الذي لبس طبيعتنا فقدسها وألهها. لقد شاء الإله المتجسد أن يكون عاملاً ليقدس العمل. وقد اختار من العمل ما كان يُعتبر وضيعًا، أي العمل اليدوي، فمارسه في الناصرة طيلة سنين طوال حتى أصبح هذا العمل ملازمًا لشخصه. ولذا كان الناس يتعجبون عندما شرع في بشارته ويتساءلون: "أليس هذا هو النجار ابن مريم؟".

بذلك اكتسب العمل كرامة فائقة وأصبح للعمال أن يفتخروا بالرب الذي شاء أن يكون أحدهم فيرفعهم إلى صورته باتخاذه صورتهم. لقد قدّس الرب يسوع العمل وجعله ينبوع نعمة لمن يمارسه باستقامة القلب. لذا نرى الكنيسة في كل قداس إلهي تقدس العمل الإنساني إذ ترفع الخبز والخمر ثمرة أتعاب البشر إلى الله الآب محوَّلَين إلى جسد ودم الابن الحبيب، فيتقبلهما الآب من خلال شخص ابنه وبهما يتقبل ويبارك كل عمل البشر بالزراعة والصناعة.

 فإذا كان الرب يسوع قد قدس العمل بعمله فما هو موقفنا نحن من العمل؟ إنه ينتج من علاقتنا بالمسيح. فإن كنا نؤمن بأننا أعضاء المسيح وجب علينا أن نكون متيقنين بأن المسيح يعمل بنا شرط أن نكون قد أسلمنا له حياتنا. فالرسول يقول: "لست أنا أحيا بل المسيح يحيا فيّ"، وإن كان هو يحيا فيّ فهو أيضًا يعمل من خلال عملي. هذه اليد التي تشتغل بالخشب والبلاط والحجارة والأنسجة إنما هي يد المسيح. هذا يتم إن كانت روح المسيح فينا حقًا حينما نعمل. وهذا يعني أن أمارس عملي بإخلاص وإتقان كأنني أعدّه للمسيح نفسه، كأن هذا الكرسي الذي أصنعه مُعدّ لجلوس المسيح، كأن هذه الغرفة التي أبنيها أو أبلّطها أو أركّب لها المنجور معدَّة لسكن المسيح، كأن هذا الثوب الذي تصنعه يداي سوف يرتديه المسيح. هكذا أعمل لا كمغلوب على أمره، بنفسية العبد أو الأجير، لكن بفرح واعتزاز، عالمًا أن المسيح بي يتابع عمل المحبة الذي أتى يدشنه عندما عاش بيننا ومات من أجلنا. عندئذ تصبح مشقة العمل نفسها اشتراكًا في صليب المسيح وبالتالي اشتراكًا في نور وفرح قيامته.

 ولكن لا ننسَ أيها الإخوة أن تتويج عملنا، يدويًا كان أو عقليًا، إنما هو العمل الروحي، العمل من أجل أن يقترب الملكوت منا ومن الآخرين. وقد أعطانا المسيح المثل على ذلك إذ كلل بالبشارة الحياة التي بدأها بالعمل اليدوي. يمكننا نحن وإن لم نتفرغ كليًا لخدمة الملكوت أن نقرن عملنا من أجله بعملنا المهني. هذا هو النهج الذي سارت عليه شعبة العمال التي نحتفل بعيدها اليوم. إن مشاغل أعضائها لم تنسهم أن الحاجة إلى واحد. لذا نراهم يواظبون بحرارة على دراسة كلمة الله الحية ويسعون بغيرة لنشرها. وقد كان تأسيسهم مؤخرًا لفرقة من العمال الأحداث تعبيرًا عن تلك الروح الرسولية الجميلة التي أنعم الرب عليهم بها.

فباسم جميع أعضاء هذا المركز أحيّي شعبة العمال الحبيبة وأقدم لها أطيب التهاني سائلاً الرب يسوع العامل أن يكون دومًا في وسطها كي تكون شاهدة أمام الناس أجمعين وأمام العمال خاصة بمحبة الرب غالب الموت ومحطم كل الأغلال.
"النور"، العدد 11، 1964
ك.ب.