" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
الأرض والملكـــوت

محاولة لتأريخ مسار الفكر الاجتماعي
في حركة الشبيبة الأرثوذكسية
(1962 – 1975)

1- مقدمة (2005)
في خضم الأحداث التي تهزّ راهنًا لبنان والمنطقة، وحيال وتيرتها المتسارعة وحجمها اللافت وبعدها المصيري والمآسي التي ترافقها، يستيقظ في الحركة، بعد ركود، هاجس مواجهة الشأن العام بكل تشعباته وتعقيداته، والوقوف منه موقفاً مسؤولاً وملتزماً في نور إنجيل الخلاص ووفقاً لمقتضياته.

من هنا أننا رأينا مؤخراً مركز طرابلس للحركة يدرج هذا الموضوع في جدول أعمال مؤتمره الداخلي الأخير، فيتدارس المؤتمرون ورقة بهذا الصدد طُلب من الأب الدكتور جورج مسّوح، مدير مجلة "النور"، وضعها، ويوزّع عليهم، بالمناسبة، نص "وثيقة التزام شؤون الأرض" التي أقرها المؤتمر الحركيّ العام الثاني عشر في كانون الأول 1970، أي منذ 35 سنة، لكي يتخذوا من هذه الوثيقة منطلقاً لهم ومرجعاً لمواجهة ما تتطلبه الأوضاع الحاضرة.

إلا أنني أرى أن تلك الوثيقة – المرجع لا يمكنها أن تأخذ كل حجمها ومدلولها، لا بل أنها تفقد الكثير من قدرتها على مخاطبة النفوس وحفزها وإلهامها، إذا لم توضع، من جهة، في نصاب السياق التاريخي الذي قاد الحركة إلى إصدارها، والذي أتت تتويجاً وتكريساً له، ولكنها، بالمقابل، تستمد منه كل زخمها وكثافتها وملحاحيّتها. ومن جهة أخرى، أرى أن تفعيل الوثيقة الآن، أي إطلاق قدرتها على تعبئة الضمائر وتحريكها باتجاه الخط الذي ترسمه، مرهون بإجراء كشف لا بدّ منه، على دقته وصعوبته، كشف للأسباب التي سرعان ما آلت بهذه الوثيقة إلى طريق مسدود وحالت عملياً دون تطبيقها بشكل متكامل فعّال. فإذا لم نبذل الجهد المطلوب للعودة إلى ذلك الماضي واستقصاء ما شابه من أخطاء وعثرات، علّنا نأخذ منها عبراً هادية، أخشى أن يبقى رجوعنا إلى الوثيقة صورياًّ وعقيماً.

لذا، فرغبة مني بوضع "وثيقة التزام شؤون الأرض" في إطارها الصحيح، على أمل أن تستعيد، من جراء ذلك، ألقها ومصداقيّتها وفاعليّتها، فكرّت أن أجمع في منشور واحد نصَّين لم يُنشرا قبلاً. أحدهما حديث ألقي في اجتماع حركيّ عقد سنة 1976، والثاني لم أتمكن من إلقاء سوى الجزء الأول منه، وذلك في اجتماع حركيّ آخر عقد سنة 1992. الأول كُتب بعد صدور الوثيقة بوقت وجيز، لا يتعدى ستّ سنوات، والثاني بعد أن مضى على ظهورها زمن طويل نسبياً، يتجاوز العشرين سنة. وتفصل بين الحديثين الحرب اللبنانية الطويلة (1975 – 1990) بضراوتها وما ألحقته بالبلد من خراب على كلّ الأصعدة. الاثنان يؤرخان للوثيقة، ويحدّدان مكانها في المسار الحركيّ، ويخلصان كلاهما إلى التنويه بتجميدها المرير ويجتهدان في كشف أسبابه. الثاني أكثر توسعاً وتفصيلاً من الأول، ولكن كلاهما يبقى مجرد محاولة يعوزها الكثير من التوسع والتدقيق ولكنها محاولة شاهد عايش المسار الحركيّ منذ بداياته ورافق باهتمام بالغ وجهه الاجتماعي وحاول أن يلتقط كل ما تسنّى له من معالمه.

يتناول النصّان الفترة الممتدة بين 1962، وهي السنة التي بدأ فيها الفكر الاجتماعي الحركيّ يبرز بوضوح، بعد فترة من التحضير، (وهي السنة التي فيها بدأ مثلاً الأب جورج خضر يكتب في جريدة "لسان الحال" بتوقيع "وائل الراوي")، و1975، وهي السنة التي نشبت في مطلعها (13 نيسان) الحرب اللبنانية. إنهما يؤرّخان إذا للفترة الممتدّة قبل الحرب اللبنانية، ويحاولان أن يبيّنا كيف أن انطلاق الفكر الاجتماعي الحركيّ الذي بلغ، سنة 1970، محطّة متقدمة من نموّه تجلت بتكريسه عِبْرَ إقرار "وثيقة التزام شؤون الأرض"، تعثّر بعد ذلك بسبب الخلاف على تأويل تلك الوثيقة، وبهذا التعثّر، للأسف، واجه الأحداث المصيرية التي فرضتها الحرب.

مع ذلك، لم تضع الحرب حداً له، بل، على العكس، كانت المأساة التي عاشها البلد حافزاً لانطلاق العديد من المواقف والأعمال التي عاشها حركيون عديدون، على الأرض، جنباً إلى جذب مع سواهم من المواطنين، شهادة للحق والانفتاح والوحدة والسلام، وخدمة للناس في متاعبهم، كما أن التعبير عن هذه المواقف بالكلمة، تواصل عِبر مقالات صحفية (كتلك التي كتبها المطران جورج خضر في "النهار" وجُمع بعضها سنة 1987 تحت عنوان "الرجاء في زمن الحرب"، وتلك التي كتبها الأب عصام بيطار – الأرشمندريت توما حالياً) وأحاديث وندوات (كتلك التي جُمع بعضها في كتاب "موقف إيماني من الطائفية" – 1982 – والبعض الآخر في "المحبة والعدالة والعنف"، 1994). ولا بد برأيي، من دراسة تتحرى وتجمع هذه المواقف والكتابات التي عبّرت عن تواصل، لا بل عن احتدام، هاجس الشأن العام لدى الحركيّين في ذلك الزمن الرديء. ولكن هذه التعابير، على غزارتها، وما تميّزت به من روعة في كثير من الأحيان، بقيت متفرقة، وقد زادت من شرذمتها عوائق الحرب وضغوطها. فقد كان حركيون يلتزمون بالفعل والقول، هنا وهناك، وفقاً لقناعاتهم، ولكن الحركة لم يُتح لها أن تقف، كجماعة، المواقف النبوية التي كان يُنتظَر منها أن تقفها لولا تعثّر "وثيقة التزام شؤون الأرض".

أما بعد أن وضعت الحرب أوزارها مخلّفة تلك الأجواء الضاغطة، المحُبِطَة، القَلِقة، التي لم نخرج منها إلى الآن، فإن قباحة وهول أحداثها خلّف لدى الكثير من الحركيّين زهداً بالاهتمام بالشأن العام، الذي ارتبط لديهم بالشرّ والبغضاء والقتل. وركن أفضل هؤلاء إلى الارتماء في نمط من التديّن ينشد الخلاص بعيداً عن العالم وشؤونه وشجونه، كما أن الضغوط الاقتصادية الخانقة التي خلّفتها الحرب حملت الكثيرين إلى الغرق في المشاغل المعيشية. كل ذلك أدى إلى كسوف الفكر الاجتماعي في الحركة. فغدت "وثيقة التزام شؤون الأرض"، بالنسبة للغالبية، نسياً منسياً. مع ذلك استمرت شعلتها كالنار تحت الرماد وألهمت أعمالاً (على شاكلة "لقاء الأربعاء" و"لقاء الجمعة" في طرابلس – الميناء) وكتابات (كمقالات المطران جورج خضر الأسبوعية في جريدة "النهار" وكتاب "الإيمان والتحرير"، 1997، وكتاب "النضال اللاعنفي: ملامح وصور"، 2000، والكتاب الذي يُعدّه د. خريستو المرّ بعنوان "خارج الأوهام. وسائل الإعلام وحرية التعبير")، لا بدّ أن تتحرّاها دراسة ترصد ما آل إليه الفكر الاجتماعي الحركيّ بعد الحرب.

فبانتظار أن تكتمل الصورة ويتوافر المزيد من المعلومات، أرجو أن تساعد محاولتي هذه الحركيّين على قراءة الماضي بتوهّجه وظلاله، بديناميّته وعثراته، بإنجازاته واخفاقاته، وأن يؤول ذلك، في آخر المطاف، بنعمة رب المستحيل وتجاوبنا معها، إلى وثبة جديدة للهاجس الاجتماعي في الحركة، ينتفض بها على الجمود الذي كبّله طويلاً ويستعيد حيويته وزخمه، بحيث نغدو لله سبيلاً متواضعاً من سبل خلاصه، يتخذه حنانه معبراً يطلق منه في الأرض قدرة قيامته الظافرة، تحريراً وتجدداً يتوق إليهما إنسان اليوم في مأساته وعالمنا في مخاضه العسير.

طرابلس - الميناء،  8-16/11/2005