" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
صلاة من وحي محنة مخيّم جنين

 

-1-

يا رب،
يتعاقب مندوبو العالم
ليقفوا أمام أنقاض
ما كان يُدعى، لأيام خلت،
بـ "مخيم جنين"،
فيكادون لا يصدّقون عينيهم
ويصرخون:
"إن ما نراه لهو أشدّ فظاعةً
وهولاً من زلزال!"

ولكنه زلزال متعمَّد
سُخِّرت له أحدث أدوات الدمار.
إذ بعد أن دكّت المدافع والطائرات
بيوت الفقراء على رؤوس أهلها،
تقدمت المجنـزرات والجرافات،
فداست، بخطاها الثقيلة العمياء،
ركام المنازل وما تحتها
من قتلى وجرحى،
ساحقة بلا رحمة
الحجارة والأجساد.
***

ربّي،
ألم يذكر الذين نفّذوا هذه الفظائع
والذين، بدم بارد،
خطّطوا لها وأمروا بها،
ألم يذكروا، ربّي،
العبارات المدوّية
التي هتف بها بإسمك،
نبيّهم أشعيا العظيم:
"ما بالكم تسحقون شعبي
وتطحنون وجوه المساكين؟" (3: 15)
أم تُراهم وجدوا مبرّرًا لهم
- وما أسرع ما يجد الإنسان تبريرًا لإثمه-
فأقنعوا أنفسهم بأن الفظائع هذه
لا بدّ منها لبناء ما سمّوه
"إسرائيل الكبرى"
بضمّهم إليها أكثر من نصف
الرقعة الباقية لسكان فلسطين
بعد أن سلبوهم أرضهم وطردوهم منها؟
وقد فعلوا ذلك كلّه متذرعين بوعدك،
وكأنه صكّ يجيز لهم القتل والاغتصاب.
هل نَسوا الكلام الذي تفوّه به، باسمك،
نبيّهم ميخا، هاتفًا:
"اسمعوا هذا يا (...) حكّام آل اسرائيل،
الذين يمقتون العدل (...)،
الذين يبنون صهيون بالدماء
وأورشليم بالجريمة! (...)
وهم إلى ذلك على الرب يعتمدون
قائلين: "أليس الرب في وسطنا؟
فلن يحلّ بنا شرّ" (3: 9-11)؟

يا ربّ،
حرّرهم من ضلالهم هذا،
إفتح عيونهم كي يدركوا
أنك لا يمكن أن تكون
مع من يعاهد الظلم،
وأنهم، عندما يفعلون ذلك،
يطردونك من "وسطهم"
ويسلمون أنفسهم للـ"شرّ"،
ويتركونه يعيث فسادًا
فيهم وفي محيطهم،
فيدمّر انسانيتهم،
ويزرع حولهم الهلاك والدمار،
وينشر حقدًا يرتدُّ عليهم
ويفتك بأبريائهم
ويسجنهم في دوامة لا تنتهي
من الكراهية السوداء والموت.
***

-2-

أعطنا يا ربّ،
نحن أيضًا،
أن لا نَدَع العنصرية
التي الهمت فظائع جنين
تستدرجنا، بدافع الانفعال،
إلى عنصرية مماثلة،
فَنُشَيطِن "اليهود" جملة،
كما لو كانوا كلّهم شارون ومن لف لفّه،
وننسى هؤلاء الجنود والضباط،
المتزايد عددهم،
الذين يتجرأون على مخالفة الأوامر
وعلى إنتهاك شريعة بلدهم،
رافضين، باسم الضمير،
أن يخدموا في الأراضي المغتَصَبَة
وأن يتحوّلوا إلى مجرمي حرب،
مفضّلين السجن على إطاعة الشرّ؛
وننسى تلك الأقلية الشجاعة،
التي ترفض أن تؤسَر
في قوقعة الخوف والحقد،
فينتسب أفرادها إلى جماعات
تناضل من أجل العدالة والسلام
وحقوق الإنسان، كلّ إنسان،
ويفضحون مظالم دولتهم
ويتظاهرون ضدّها،
ويتصدّون للجرافات
إذا أتت تهدم
بيوت الفلسطينين،
ويعيدون بناءها بأيديهم
ويساندون مقاومة
المطرودين من منازلهم
ويتلقّون الضرب معهم.
أعضد وشدّد يا رب هؤلاء
السابحين ضدّ التيّار،
المستلهمين روح أنبيائك،
المتسلّحين بجرأتهم.
إجعلهم بؤرة نور
في الظلمة المستشرية،
وخميرة صلاح وحقّ
لشعبهم كلّه،
وطلائع فجر عهد جديد
من العدالة والسلام.
***

-3-

يا ربّ،
في هذا اليوم الذي نقف فيه
على عتبة الولوج
إلى السرّ الفصحي،
سرّ آلامك وقيامتك،
أعطنا أن نذكر بخشوع
أن وجوه البائسين
"المطحونة"
إنما هي وجهك أنت
الدامي بإكليل الشوك.
فيا من رميت نفسك
في عمق مأساتنا
وشربت كأس مرارتها
حتى الثمالة،
لتزرع في قلب ظلمتها
نور القيامة الظافر،
دعنا نستبق الهتاف إليك:
"قُم يا الله واحكم في الأرض!".
قم في محنة اخوتنا الفلسطينين،
حرّرهم بقدرتك من الظلم والمهانة
والغطرسة والإذلال،
أعِد إليهم كرامتهم السليبة،
هبهم أخيرًا التحرّر الذي طالما تاقوا إليه
بدموعهم ودمائهم المسفوكة.
إنهض أيضًا في الظالمين،
ليّن تحجّر قلوبهم،
اعتقهم من نير شهوة الاستئثار،
رَمِّم انسانيتهم المتصدّعة،
أهّلهم أن يذوقوا
طعم الإنصاف والمشاركة
واليد الممدودة لتلاقي يدًا أخرى
وتعمل معها على بناء عالم جديد
لا يعرف الظلم
ولا الحقد.
أما نحن، يا رب،
فحرّرنا من غفلتنا ولا مبالاتنا
حيال شرور الأرض ونكباتها.
أيقظ فينا الشعور بمسؤوليتنا،
أعطنا أن لا نختبئ وراء الإحساس بضآلتنا
لنبرّر به التقاعس والإنسحاب.
هبنا أن نعي أن لكل منا دورًا
مهما كان صغيرًا،
دورًا لا يستغنى عنه
في استعجال ملكوتك.

 
23-24/4/2002
ك.ب.

أعدّ هذا النصّ ليُتلى في لقاء صلاتي أقيم يوم الجمعة 26/4/2002 في بيت الحركة في طرابلس الميناء، من أجل فلسطين.